علم نفس الاستعمار أوكتاف مانوني
ترجمة: كامل عويد العامري
في عام 1947، اندلع تمرّد في مدغشقر، والذي يعد نذيراً لإنهاء الاستعمار في أفريقيا. وقد قمع بعنف شديد، لكنه استمر حتى نهاية عام 1948. ثم كتب أوكتاف مانوني، الذي عاش في البلاد، هذا النص التأسيسي، الذي يشكل نقدًا جذريًا للاستعمار. يوضح هناك، من خلال التحليل النفسي وعلم النفس، كيف أن الصور التي اختلقها المستعمِر عن المستَعمَر تنكر ذلك: «الزنجي هو الخوف الذي يشعر به الأبيض من نفسه». يحلل مانوني آليَّة التبعيَّة التي توحّد المستعمر بالمستوطن من خلال الشاشة التخيليّة التي أقامها كل منهما بينه وبين الآخر. لذلك فإنّ المنظور الأنثروبولوجي ضروري في هذا التفكير مثل الاهتمامات السياسيّة التي دفعته.
أثار هذا التحليل، الذي كان جديدا كليًا في عام 1950، انتقادات شديدة من إيمي سيزير وفرانتز فانون، اللذين استهدفا بشكل خاص “عقدة تبعيَّة” المستعَمر. رد عليهما مانوني بمقالات أو مقدمات جديدة في اصدارات متتالية للكتاب، وهو ما ذكرته هذا الطبعة الجديدة. لا يوجد تحليل محايد للعنصريَّة، كما يعرف ذلك. لذلك، من الضروري أيضا “إنهاء استعمار الذات”، وهو أمر ضروري، دائمًا للبدء من جديد، كما سيكتب في مقال لاحق، ملحق بهذا الكتاب الذي صدر في : 30-05-2022.
أوكتاف مانوني (1899- 1989)، محلل نفسي، وكان أيضًا فيلسوفًا وعالمًا في علم الأعراق البشريَّة، وقد جعله هذا التنوع صوتًا أصليًا في مجال التحليل النفسي الفرنسي.
واجه هذا الكتاب عندما نشر في عام 1950، احتجاجا حقيقيا، سواء من الماركسيين المتعصبين أو من مؤيدي الزنوجية الرئيسيين - أليون ديوب، إيمي سيزير، ولكن أيضًا فرانتز فانون، الذي اعترض عليه بشدة في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) الذي صدر عام 1952، مع الاعتراف بدوره كتنويري - كان علم نفس الاستعمار بالتأكيد كتابًا جاء في غير أوانه. ليس فقط لأنه كان يمثل في ذلك الوقت المحاولة الأولى لوصف الاقتصاد الليبيدي اللاواعي الخاص بالعالم الاستعماري - العالم الذي كان المؤلف يعرفه عن كثب - ولكن أيضًا بقدر ما توحي بأن العلاقة الاستعمارية لا يمكن أن تختفي في الحال، حتى بعد تحرير الشعوب المستعمَرة. بعبارة أخرى، على الرغم من أنه كتب في أواخر الأربعينيات، في وقت كان فيه إنهاء الاستعمار قد بدأ للتو، فقد تبنى بالفعل منظور ما بعد الكولونيالية، مما يشير إلى أن آثار التجربة الاستعمارية ستكون طويلة الأمد، سواء بالنسبة للمستعمَرين السابقين أو المستعِمرين القدامى. قد يؤدي هذا فقط إلى إرباك أولئك الذين شكلوا الجبهة المناهضة للاستعمار. ومع ذلك، على الرغم من الارتباك الذي أحدثه بين هؤلاء، إلا أنه لم ينقصه في إحداث تأثيرات لاحقة ملحوظة، خاصة بعد انتهاء الحرب الجزائرية وفي العالم الناطق باللغة الإنجليزية.
لذلك دعونا نحاول تقديم بعض العناصر حول المسار المذهل لهذا النص، والذي سيكون قد شهد، في غضون نصف قرن، ثلاث طبعات أصدرها ثلاثة من الناشرين المختلفين، وبعناوين متباينة: علم نفس الاستعمار (دار سُي، 1950)، بروسبيرو وكاليبان (الإصدارات الجامعية، 1984) و العنصرية إعادة النظر مرة أخرى. مدغشقر، 1947 ( دار دينويل، 1997).
تظهر التقلبات ذاتها في عنوانات الكتاب صعوبة وضع هذه الدراسة في تصنيف مستقر: هل هو عمل يتناسب مع تقاليد الإثنوغرافيا الاستعمارية، أو حتى علم نفس الشعوب، قبل الحرب العالمية الثانية؟ هل يجب اعتباره تحليلًا للعلاقة الجدلية بين السيد والخادم، كما يقترح العنوان (بروسبيرو وكاليبان)، المستعار من مسرحية شكسبير (العاصفة) والذي اختير أيضًا لترجمته الإنجليزية؟ أم ينبغي ألا يُقرأ على أنه يتناول مسألة العنصرية الاستعمارية والثورة الكبرى لمدغشقر عام 1947، كما يوحي العنوان الذي اختارته زوجته مود مانوني لإصداره بعد وفاته عام 1997؟
في الواقع، علم نفس الاستعمار هو كل هذه الأشياء وأكثر، كما سنرى في هذه المقدمة القصيرة لإصداره الرابع، والتي اختار الناشر العودة إلى عنوانه الأصلي.
من هو أوكتاف مانوني؟ وما هو مساره الفكري والذاتي، قبل أن يصبح، منذ الستينيات، صوتًا معروفًا للتحليل النفسي الفرنسي، ولا سيما لكتاباته على المسرح ولنص تحليلي قصير يهدف إلى ترك أثر دائم في تاريخ التحليل النفسي، “أعرف جيدًا، ولكن لا يزال... “(1964)، الذي أُنشئ مؤخرًا ارتباطه النظري، الذي ظل من دون أن يلاحظه أحد لفترة طويلة، مع علم نفس
الاستعمار؟
ولد مانوني عام 1899، وتلقى تعليمه العالي في ستراسبورغ، حيث حضر دروس موريس هالبواكس. في عام 1925، غادر إلى مارتينيك، حيث كان أستاذاً للأدب والفلسفة في مدرسة ليسيه شولشر في فورت دو فرانس. منذ ذلك الوقت، أظهر اهتمامًا بالعالم “بين الأعراق”، حيث شارك في تأسيس مجلة Lucioles، مع الشاعر جيلبير غراتيان Gilbert Gratiant، وآخرين، وهو من أوائل من نشر الشعر باللغة الكريولية. لفترة طويلة، كانت اهتماماته في الأدب أكثر منها في الفلسفة. بعد فترة قصيرة ذهب إلى جزيرة لا ريونيون [وهي جزيرة فرنسية يبلغ عدد سكانها نحو 800 ألف نسمة تقع في المحيط الهندي، شرق مدغشقر]، ووصل إلى مدغشقر في أكتوبر 1931، ودرس في مدرسة غالياني Gallieni الثانوية في أنتاناناريفو، لمدة سبعة عشر عامًا. مما لا شك فيه أن تجربة الحرب قد زعزعت يقينه النادر، كما يتضح من قراءة مذكراته المنشورة بعد وفاته. ثم احتل الإنجليز مدغشقر بهدف مواجهة أتباع فيشي هناك، وهو حدث كان من المفترض أن تكون له عواقب “نفسية” وخيمة على سكان مدغشقر، لأنه كان يقوض صورة المستعمِر ذاتها.
في الوقت الذي فيه التقى مع لاكان، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1945، خلال إجازة استثنائية ممنوحة لموظفي الخدمة المدنية من المغتربين، كانت حياة مانوني الأولى وراءه: ربع قرن قضاها في العالم الاستعماري. شغف بالفلسفة (خاصة الظاهراتية والوجودية)، وميل قوي للأدب (خاصة الشعر)، وكذلك اهتمامًا شديدًا بالإثنوغرافيا وعلم النبات. وهكذا كان التقارب الفكري مع التحليل النفسي جاريًا بالفعل، في هذه الفترة من الأزمة، سواء كان ذاتيًا (كان مانيون يعتزم مغادرة مدغشقر والانفصال عن زوجته الأولى، التي التقى بها في سنوات شبابه)، سياسيًا (بدا أن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية كانت كذلك)، في الطريق إلى الانحطاط الحتمي) والأخلاقي (البعد عن الفلسفة). في هذه المرحلة، لعب اللقاء مع لاكان وبداية التحليل معه دور ولادة جديدة ذاتية حقيقية، والتي يبدو أنها جعلته يمضي قدما. عند عودته إلى مدغشقر في فبراير 1946، عين مانوني، الذي أصبح في الوقت نفسه قريبًا من الحزب الشيوعي الفرنسي.. مديرًا لخدمة المعلومات في المستعمرة، مما يعني إنه يعود بشكل أساسًا إلى إدارة مجلة Revue de Madagascar، الجهاز الثقافي للجزيرة الكبيرة.
لم تدم تجربته طويلًا: فقد فصل من منصبه بعد ستة أشهر فقط. أغلق هذا العزل، الذي لم تتضح أسبابه، في عينيه نهائياً استطراده الملغاشي الطويل، بينما شجعه على أن يستمد منه نوعا من الحصيلة العامة، الشخصية وغير الشخصية، في مشروعه “التقدم في المجال الغامض وغير الدقيق لعلم النفس بين الأعراق”، وهو مشروع صاغه في وقت مبكر من فبراير شباط عام 1946 في مذكراته. فكان (علم نفس الاستعمار) ثمرة هذا المشروع، الذي تطور بين عام 1946 وصيف عام 1947، عندما عاد مانوني بشكل نهائي إلى فرنسا وبدأ في كتابة
مخطوطته.
في اللحظة نفسها التي كان فيها مانوني يكتب كتابه، وقع حدث غير متوقع: ثورة غير مسبوقة قام بها الفلاحون الملغاشيون الصغار في الساحل الغربي، “تمرّد حاملي الرماح”، هزّت النظام الاستعماري قبل أن يستعيد الجيش السيطرة بفضل تدخل القوات السنغالية الذي خلف عشرات الآلاف من القتلى.
إنَّ اندلاع هذه الانتفاضة الواسعة، التي لم تكن من عمل الدوائر الانفصاليّة الحضريّة، ولكنها جاءت من مجموعات اجتماعية تابعة غير مدمجة في النظام الاستعماري، ستؤخذ في الاعتبار في تحليلات مانوني، التي يغطيها هذا الكتاب الأول في نهاية المطاف بطابع ثلاثي: محاولة غير مسبوقة لتطبيق التحليل النفسي لفهم “الوضع الاستعماري”، أي علاقة ذاتية، وليست علاقة هيمنة أحادية الجانب، وقراءة نفسية أنثروبولوجية لذاتية المستعمِر، وليست سايكولوجية الشعب المستعمَر، كما كان يريد التقليد الكامل للنسيج الاستعماري؛ وأخيرًا، تحليل الوضع، أي تحليل أعظم ثورة عام 1947، والذي يعمل كمكان للتحقق النهائي من التحليلات السابقة.
سيكون من الضروري أن تكون هناك قدرة على كشف هذه النقاط بالتفصيل، من خلال الإصرار على سبيل المثال على تركيبة “الوضع الاستعماري”، الذي يقع في قلب منظور الكاتب، فهو ينظر إلى العالم الاستعماري على أنه مشهد، بالمعنى المسرحي تقريبًا، فيه تلعب كل شخصية دورها - دور السيد الذي لا يلين، بوصفه مستعمِرا، ودور الطفل المخنّث والبدائي، بوصفه مستعمَرا - إذا لم يكن هناك العديد من القرائن، ناهيك عن العديد من الأعراض التي تشير باستمرار إلى مثل هذا التوزيع الخيالي للأدوار إلى حد كبير، ويستند إلى “سوء فهم متبادل” مما يجعل الوضع الاستعماري محفوفًا بالمخاطر للغاية، من وجهة النظر النفسية، حتى عندما يبدو راسخًا من الناحية المادية.
سيكون من الضروري فحص كيف يأخذ مانوني التصنيف التحليلي لـ “عقدة النقص” بالتفصيل، التي طورها تلميذ منشق عن فرويد، ألفريد أدلر، وتطبيقها على الأداء اللاواعي للمستعمِر، بدلاً من استخدامها لتحديد المستعمَر. أخيرًا، يجب أن يؤخذ الجزء الثالث من الكتاب على محمل الجد، إذ يسعى مانوني جاهدًا الى تخيل مسار مبتكر لإنهاء استعمار مدغشقر، لا يمر من خلال النقل المكثف للسيادة من الدولة الاستعمارية إلى دولة ما بعد الاستعمار، ولكنه يسعى جاهدا إلى بناء تحول متعدد ومنعرج، بناءً على تحديث مجتمعات القرية، وفقًا لأنموذج لا يخلو من التذكير بالمثل الأعلى لغاندي للأمة الريفية. أخيرًا، وفي القسم الأخير من الكتاب، ينضم ديكارت إلى روبنسون كروزو باعتباره الأنموذج الفلسفي المثالي للفلاحين المناهضين
للاستعمار.
لكن مثل هذه المهمة تتجاوز إطار هذا العرض، وفي ختامه سنحدد مع ذلك ثلاثة أسباب أساسية (لإعادة) قراءة علم نفس الاستعمار: أولاً وقبل كل شيء، فلأنه كتب على الفور ما وراء أفق عمليات إنهاء الاستعمار السياسي، يلعب هذا الكتاب دورًا مؤسسيًا في مجال الفكر ما بعد الكولونيالية. وثانيًا، لأنه ولأول مرة يشرك التحليل النفسي من أجل فهم نقدي للوضع (ما بعد) الكولونيالية، يلعب دورًا محوريًا في حديث فانون علانية، وهو أول صوت فرويدي- ماركسي من العالم الاستعماري، أخيرًا، من خلال ربط الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والتحليل النفسي، فإنه يتوقع بناء أنموذج نقدي أوسع، أصبح أكثر وضوحًا اليوم، في وقت يعتمد فيه الفكر النقدي لما بعد الكولونيالية على كل هذه
المصادر.
لذلك حان الوقت لمنح كتاب أوكتاف مانوني الأول مكانته اللائقة باعتباره كلاسيكيًا لما بعد الكولونيالية، والذي لا يمكن لإعادة نشره سوى لإثراء المناقشات الحالية وإضفاء العمق التاريخي عليها.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة