روحُ الجماعات.. بين العبقريَّةِ والتدمير الذاتي
د. فارس عزيز المدرس
تدل المشاهدة السطحيّة على أن التحولات الكبيرة التي تؤثر في ارتقاء الأمم أو انحطاطها سببُها التقلبات السياسية والحروب، أو التغيّرات الحاصلة في مبادئ الناس ومعتقداتِهم.. غير أن التأملَ الدقيق يثبت غيرَ هذا تماماً. نعم، قد تكون هذه العوامل سبباً في إحداث التحولات، أو معززاً لها، لكنها لا تشتغل إلا بوجود محرك أشد منها زخماً وخطورة. هذا المحرك هو (روح الجماعات النفسيّة).
وروحُ الجماعاتِ النفسيّة قوة تتشكّل فتحــــرّكُ واقعَها على وفق زخمها واتجاهها، وهي إذا تتشكّل في جماعةٍ ما تقلبُ أحوالها قلباً، وإذا تحوّلت الشعوب إلى جماعاتٍ نفسية فانتظر مِن التغيرات الجذرية أو حتى الدراماتيكية ما يُثير العجبَ، ويُعجِزُ الرؤى والنظريات عن تفسيرِها. إننا نتحدّث هنا عن زخم هذه الطاقة، لا عن تقييمها الأخلاقي، فهي مثلما قد تكون مدمرةً؛ فقد تكون عبقريّة وخلّاقة إلى أبعد تخوم التخيّل.
وتحليلُ الحادثات التاريخيّة تثبت أنّ هذه الروح أصلُ التحوّلِ والنمو والانحطاط، وهي شبیهةٌ بطاقةِ اللاشعور. وقد أطلق علیها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون: روح الجماعات. ویرى أنَّ هذه الروح لا یمكن الاحاطة بكنهها، لكنْ یمكن وصف ظواهرها.
قد يستغرب أحدٌ حين يسمع بارتباطِ طاقة اللاشعور بروح الجماعات النفسية، أو أنَّ حركة اللاشعور يمكن أنْ تؤثر هذا التأثير في حركة التاريخ. ولكن نذكّرُ بمثال بسيط مفاده: أنّ من الموجودات الحيّة ما لها مِن الأفعال الغريزية هائلة الدقة ما لا يمكن للعقل إتيان عشر مِعشارها، ولا يستطيع حتى تفسيرها وفهمها؛ فكيف بالإنسان وما تحكمه مِن قوة لاشعورية عميقة الغور، واسعة المدى، معقّدة التركيب.
إنَّ روحَ الجماعات حين توصف بـ (اللاشعوریة) فلیس انتقاصاً مِن قدرها، إذ هذا لا یعني أنّها لا صلةَ لها بالوعي.. واللبسُ یزول عندما نتذكر بأنّ هذه الروح متكوّنةٌ من اندماج كیاناتٍ فردیة لها نسبٌ مُتباينة مِن التعقل والشعور. لذلك عندما تتشكّل هذه الروح تكون قد استوعبت الأطر العقلیّة والشعوریّة لأفرادها، وعكستها على بنیانها العام. وروح الجماعات مِن القدرة والعبقریّة ما یفوق الوصفَ، وفي الوقت ذاته یمكن جرَّها إلى أشنع مهاوي الانحطاط، إذ لدیها القابلیة على أنْ تكون كیاناً ودیعاً أو مارداً شیطاناً.
الجماعاتِ النفسيّة: اجتماعُ لفيفٌ مـِـن النــاس، بغضّ النظر عن أعدادِهم تحت مؤثر نفسيّ واحد ومحرّض مشترك، ولا يعني وجودُ آلافِ الأشخاص في مكانٍ ما أنهم جماعة نفسية، فهؤلاء مجرد حشود لا يربطهم رابط.
ومن خلال المشاهدةِ واستقراء الحوادث نستطيع إدراك أهـمّ أوصــــاف روح الجماعات النفسية، ومنها:
- الجماعات النفسية قليلةُ التأثّر بالنُظم والقوانين، وليست لها رأي إلا مــــا تُلقّن به، ومِن هنا يكون لِزاما على مَن يريد التأثير فيها أنْ تكون له ملَكة تمكّنُه من فهم النفسية المشتركة لروح هذه
الجماعات.
- الانفعالاتُ والتعبيرات المجازية ذات الطابع العاطفي والتحريضي هي ما تحفِّز مواقفَ الجماعات النفسية وتحدد اتجاهات. وهذا ما حدا بالفيلسوف ديدرو إلى القول: إن مِن مظاهر الضعف العقلي لدى البشر ميلُهم إلى التصديق قبل سبْر قيمة البراهين.
- تقلـّـب الجماعاتِ النفسية في مواقفها - بفعل المحرّضات والتكرار - مِن أشد سماتها.
- الجماعةُ النفسية قد تكون متوحّشةً همجيَّة، وقد تنقلب إلى شهيدة ملائكيّة تحت تأثير محرضات أخرى، لذا من غير المُجدي الحديثُ عن قيمَتي الخير والشر في هذا المجال، نظراً للتعقيداتِ التي ستلازم الأحكامَ حول هذه المسألة، لأننا بصدد حالةٍ ليس مِن السهلِ تبريرها بالوعي وبمعايير المنطق.
- الجماعاتُ النفسيةُ واقعةٌ في الغالب تحت تأثير روح مشترك يقيّد الشخصيةَ الفردية. ودليلٌ ذلك أنّ الشخص وهو منفرد قد يجبُن أنْ يفعـــل فعلاً بسيطاً، ولكن مِن خلال إحساسه بالترابط النفسي والكمي مع المجموع قد يقدِم على أعمالٍ غايةٍ في الخطورةِ والشجاعة.. أعمالٌ قد تُلغى أمامها فكرةُ الحرصِ على الحياة نفسها. ومبــدأ الاستحالة يزول لدى الفرد وهو في جماعة.
- الغلو في المشاعر مِن أهمّ صفات الجماعات النفسية، لذا هي تطلب الغلوَ في مشاعر أبطالها، وهي ميالة إلى الإفراط في التوكيد والتكرار والمبالغــــة.
- غالبا ما تكون مأخوذة في سلوكِها بمبدأ القياس والاعمام، كالتلميذِ، الذي يوبّخه المعلم على تصرفاته؛ من دون الإحاطة بالبعد النفسي له، فيقيس هذا التلميذ أيَّ معلمٍ على معلّمه الأول بالتعميم والقياس قائلا: كلُّ المعلمينَ جفاةٌ
غلاظ.
- أخلاق هذه الجماعات إذا ما توفرت لها عواملُ مناسبة تنتشر انتشاراً بالعدوى وبالتلقين؛ لتشملَ في طريقها حتى الأدنياء على صعيدهم الفردي. وسِمة التحوّلِ بالتلقين والعدوى لا يمكن أنْ يتحققَ سلاحٌ أمضى منـه بيـد الموجّهين لتلك للجماعات، سواءٌ كان توجيها بناءً، أم
مُشِيناً.
- الجماعاتُ النفسیةِ قلیلة التأثّرِ بالنظم والقوانین، وغالباً لا رأي لها إلا ما تُلقَّن به، أو تتحصّلُ علیه مِن خلالِ التقلید والتلقین الذي یعدُّ عاملاً مهما مِن عوامل تشكیل اتجاهها. ومِن هنا يلزَم مَن یرید التأثیر فیها أنْ تكون له مَلَكةٌ تمكّنه مِن فهم النفسیةِ المشتركة لروح هذه الجماعات.
- الأفكارُ التي تُلقّن بها الجماعاتُ النفسية لا تكون مؤثرة إلا إذا اكتسبتْ شكلاً بسیطاً؛ وكانت على صورٍ وعواطفَ لیس بالضرورةِ أنْ یكون فیها رابطٌ منطقي، لذلك تجدُ كثيراً مِن التصورات الدینیّة آسرة ومبنیّة على قصص مشحونة بالعاطفة، ومجافیة للواقعة التاریخیّة، فضلاً عن تقاطعها مع المنطق، لكنّها ولأسبابٍ كثیرةٍ تأخذ طابعَ الیقین، وتعمل على تشكیل روح الجماعات؛ مِن بعد أنْ یجري تعزیزها بمقدماتٍ ونصوصٍ ذات القداسة.
- الجماعاتُ النفسیةُ تمیلُ إلى القوالب الجاهزة مِن الأحكام والتصورات. والأفكار تصطرع مع بعضها داخل بنائها المعقّد؛ ویكون الثبات مِن نصیب القوالبَ الأكثر بساطة، ومغازلة لآمال هذه الجماعات
وأحلامها.
معوضاتُ الأخيلة
هل الأخيلة تعوّض في ظروف معينة عن العقل؟.
ليس مِن السهل الإجابة عن هذا؛ لكن الدارسات الحديثة أثبتت أنّ الأخيلة لا تقل أحياناً عن التعقل في اشتغالها الذهني. والأخیلة التي تشتغل في وعي الجماعات النفسية مِن الخطورةِ والعمُق بحیث لیس مِن السهل تعقّبُ جذورها أو تقییم زخمها. وكثیرٌ مِن هذه الأخیلة تعمل بآلیةِ التحریض والتنمیط. واستغلال هذه الأخیلة وجعلها عنصر تحریض وانقیاد لا يقتصر على الجانب الدیني، فلها أشكال ومجالات مختلفة. ولیس بغریبٍ أنْ یهيمنُ العرق فيها، بالاستناد إلى مسوغیات ذات قداسة وكاريزما مِن العسیر الحدُّ مِن زخمها.
وبقدر ما تكون الأخيلة محقِّقة للترابط الشعوري بين الجماعات النفسية ودافعاً لشحذ الطاقات وتقديم التضحيات والنمو الإبداعي والأخلاقي فقد تكون أخيلةً مُنتجة للشر؛ حين تنطلق من عنصریة وأوهام منحطة، أو داعیة للإسفاف الخلقي والذوقي، أو محرِّضة على سلوك الكراهية.
النبالةُ والانحطاط
يرى المفكرُ الفرنسي غوستاف لوبون أنّ كثيراً من العلماء جنحوا إلى دراسةِ الأعمال الإجرامية لدى الجماعات النفسية، ورأوا أنها غالباً ما تكون في مستوى مُنحط، ولكنّ القليلَ منهم مَن درس مــــا لها مِن بعد أخلاقيّ راق، كالتضحيةِ والإيثار والفداء والتنزّه عـن الغـرض، في ظلّ ظروف ومحرضات نفسية معينة.
وما يصدر مِن سلوك سلبي مِن لدن الجماعات النفسية هو سلوك فردٍ شاذٍّ وجد في الجماعة أمَنةً مِن العقاب؛ فقام بتفريغ غرائزه المشينة التــــي سرعان ما تنتشر بالعدوى إلى الآخرين، وخصوصاً عندما تكون الجُموع في حالة انفلات وهيجان بسبب ما تتصوّره مِن ظلمٍ وقع عليها، أو معاناة طبيعية قد لا يرقى الفكر الجمعي على استيعاب معادلاتها؛ فيُسقطها على بؤر معينة يراها هو
حقيقية. وليس مِن المرجّح أنْ تكون الجماعاتُ دوماً على حقّ في تصورها للحادثات والجوائح التي تعانيها، إذ قد يكون التحريض مِن عوامل خداعها وتفعيل طاقتها السلبيَّة؛ وهي لا تعرف حقيقة ما تصنع؛ بل تراه فعلاً نبيلاً.
والجانب المادي له تأثير في تشكيل روح الجماعة تجاه عنصر الرفض، إذ الناسُ لهم القابلية على تناسي كلّ المواقف والأحوال؛ ولكنهم لا يستطيعون تناسي ما ينالُ من أرزاقهم، وغالبا مــــا كان هذا الأمر دافعاً لتوليد الحجج المعنويّة والأدبيّة التي تبــــرّر سلوك الجماعات لحالة الرفض والتكتّل النفسي والفعلي.
المحرّضون يستغلّون مثل هذه الدوافع للتأثير في سلوك الجماعات
النفسيَّة.
قوة البساطة في سلوك
الجماعات النفسيَّة
الأفكارُ التي تلقّن بها الجماعاتُ النفسيّة لا تكون مؤثرة إلا إذا اكتسبتْ شكلاً بسيطاً؛ وكانت على شكلِ تصورات ليس بالضرورةِ أنْ يكون لها رابــطٌ؛ فالعنصرية والغلوُّ الطائفي والتكتلات الحزبية وما نحا نحوها هي أفكار هشّة بحــــدِّ ذاتها؛ على الأقل مِن بعدها المنطقي، لكنْ لها من الرسـوخ في مشاعر مريديها ما يثير العجب.
والجماعاتُ النفسية تنصاع لِمثل هذه التصورات لا إيماناً بها؛ بل لأنّها تعبّر عن فائض الغل الكامن فيها.
وهي تنصاع للتصورات التي لُقنت بها من دون أنْ تحمّلَ نفسها عناء التحقق من صحتها. وحتى لو قام دليلٌ على بطلانها فإن فائض الغل والتلقين المتكرر قادرٌ على سحْق معطياتِ العقل. ويستمرُّ الحال هذا إلى أنْ تستنفد هذا الفائض، وتتثبّتْ مِن عدم جدواه معنوياً ومادياً.
ولما كانت الجماعات النفسية غالباً عاجزة عن التركيب الفكري وتميل إلى الحرفية والقوالب الجاهزة، فالتصوراتُ والأفكار تصطرع مع بعضها البعض داخل البناء المعقد لها، ويكون الثباتُ مِن نصيب الأفكارِ الأكثر بساطة، والأعمق خيالاً ورمانسية ومساساً بالآمال والأحلام لدى الجماعات النفسية.
إنَّ ما مرَّ من حديث عن هذه الجماعات لم يتحدّد بأعداد معينة، فالعنصرُ العددي له تأثيرٌ، لكنه مجردُ قوة مُعزِزة، أمّا الأصلُ فصفات هذه الجماعات. وإذا توافرت شروطٌ معينة تحوّلتْ شعوبٌ بأكملها إلى جماعات نفسية.
روح الجماعات وفاعلیة التغییر
منذ زمن بعید بدأت في الغرب الدراساتُ التي تَعنى بروح الجماعات، لكنها ما كانت لتأخذ إطارها الموسّع إلا في القرن التاسع عشر؛ إذ تأسّست الدراسات الانثروبولوجیة لتعالجَ العدید من القضایا المتعلقة بالإنسان. وكانت جهوداً وعطاءات ضخمة، غیر أنّ السیاسة غالباً ما یحكمها البعد النفعي. وعلیه فقد أخذ المتنفذون بالاستفادة من تلك الجهود على وفق أطرٍ نفعیة؛ فاستغلت تلك الدراسات وسخّرتها على الضدِّ مِن أهدافِها.
قطار التفكيك
لا تنزع السیاسةُ العالمية الكبرى إلى الحروب؛ بقدر ما تنزع إلى تفكيك عرى الروح لدى خصومها. لذلك تعوّل على بناء الجانب الايجابي لروح الجماعات النفسية لدى شعوبها، بالاستناد إلى خبرات تقدمها دراسات فائقة، بينما تعمَد في مواجهة الدول المناوئة لها إلى تفكیك نموّ الوعي أو التشويش عليه، عِبر الطرح الحاد لتصورات ونظم انتقائية تُفضي إلى تدمير عنصر التلاحم الاجتماعي والسياسي المعارض لمنهجیتها، وباستغلال المَنْحى السلبي لروح الجماعات النفسية، وهذا ما نجده فاضحاً عبر التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأضعف، من خلال تحريض الأقليات أو الطائفيات او القوميات، أو صنع تكتلات حزبية ذات نزوعٍ تصادمي فيما بينها.
بينما لا نعرف نحن الكثير عن أنفسنا، ونجهل بشدة روحَ الجماعات، وما لها من قوة تدميرية، وما فيها من قدرات عبقرية هي أصلُ كل بناء حضاري
مكين.
التاريخ لا يعيد إنتاج أخطائه إلا بسببِ الجهلِ بعوامل نشوء الجماعات النفسية، أمّا وجودُ الأفكار والأحداث فما هي إلا نتيجة. لذلك نحن نسعى ونقدّم التضحيات من أجل النهوض من بين رماد مآسينا؛ لكنْ ليس لدينا التفكير الجذري الذي نفهم منه ذاتنا، وطبائعنا وظروفنا.
بل نصنع لأنفسِنا جماعاتٍ نفسية سلبية، تتعارض مع جماعات نفسية أخرى هي جميعاً في الأصل مِن نسيج واحد. وبهذا نحوّل روحَ الجماعات لدينا إلى طاقة مدمرة؛ بدلاً من أنْ تكون طاقةً عبقريةً صانعةً للحضارة والارتقاء المدني والثقافي
والأخلاقي.
إنَّ محاولاتِ التغییر - إذا ما اقتصرت على نمطٍ سطحيٍّ تلازمه قلّة الكفاءة وغياب القدرة الذهنية والنزاهة – تنتهي إلى بناءٍ هشٍّ؛ سرعان ما تعصف به التحدیاتُ، ویكون زوالُها سریعا، لأنها تفتقر إلى ما تبسطه أجنحةُ الروح.. روح الجماعة النفسية.
وسلامةُ المجتمعات مرتبطةٌ بالعودة إلى ستراتیجیة تشكیل روح الجماعات تشكیلاً بناءً، وإلا فالوصول إلى مجتمعات التخلف والضحالة والعطل عن العطاء أمرٌ لا مَفر منه، رغم كل مكتسبات الرفاه وطوفان الرغبة والتملك الذي أضحى الهدفَ الذي تُساق إلیه الشعوبُ على حساب الكینونةِ والحضور.