التفكيرُ الحرُّ جوهرُ الفلسفة

ثقافة 2019/04/10
...

محمّد صابر عبيد
 
التفكير الحرّ Freethought مصطلح حديث شاع في السنوات الأخيرة إثر بروز مصطلحات مصاحِبة أخرى تعمل في حقل المفاهيم الديمقراطيّة التي سادت العالم الحديث، وهو بوصفه مفهوماً فلسفيّاً بالدرجة الأساس فإنّه يتألّف من ثلاثيّة العلم والعقل والمنطق، وقد يُصطلح على هذا النوع من التفكير في المصطلح اللاتينيّ (الليبراليّة) التي تتيح حريّة التفكير والانتماء من دون أيّة ضغوط مهما كان نوعها وشكلها ومرجعها.الفلسفة مجالٌ غير محدود وغير متناهٍ ومفهومها العام والخاصّ مفهوم متغيّر ومتموّجٌ ومفتوحٌ على الجهات بلا عوائق، وهو ما يعطيها مرونة أكبر وأوسع وأعمق على المستويات المعرفيّة كافّة، لذا فإنّ المفاهيم التي تعمل في حقلها تتشكّل على وفق مساحات لغويّة ومعرفيّة بالغة الكثافة والاحتشاد والتشابك والتعقيد والتعمية، ومنها مصطلح التفكير الحرّ إذ يتأسّس استناداً إلى رؤية متعلّقة بالعقل عملاً بدالّة التفكير، وأخرى متعلّقة بالحياة بحسب دالّة الحرّ، واقتران العقل بالحياة يُنتِج هذا اللقاء اللغويّ الدلاليّ بين التفكير 
والحريّة.
يتحرّك التفكير الحرّ في مجالٍ رحبٍ بلا وسائط ولا مزايداتٍ ولا أعرافٍ مسبقةٍ، وهو في الآن نفسه خالٍ من طرح الوصايا والنصائح والإرشادات، فالإنسان بطبيعته حتّى في أكثر المجتمعات ديمقراطيّةً لا يمكن أن يكون حرّاً على نحوٍ كليّ مطلق، وذلك لوجود قوانين وأعراف ودساتير تنهض عليها المجتمعات لأجل أن تضبط إيقاع حركة مجتمعاتها على النحو الذي يستجيب لمنطق الدولة، مع وجود تباينات كبرى بين المجتمعات المتحضّرة والمجتمعات المتخلّفة بطبيعة الحال وعلى أصعدة كثيرة لا مجال فيها للمقارنة، لكنّ الحريّة تبقى مهدّدة دائماً على الرغم من تنوّع مفهومها لدى كلّ مجتمعٍ وفي كلّ مرحلة تاريخيّة، إذ أنّ سقف الحريّة هو الذي يحدّد مصيرها وجدواها ومستقبلها ويمنحها معنىً مختلفاً في كلّ زمان ومكان.
العقل المُنتِجُ للتفكير الحرّ يكون دائماً في حالةٍ نرجسيّةٍ قابلةٍ لرفعِ الذاتِ إلى أعلى مستوى يُمكّنُهُ من احتواءِ المحيطِ واستيعابِ تمثّلاته ومكوّناته وفضاءاته، وهو فوق ذلك عقلٌ نابعٌ من جوهر الذات ويفيض على عَرْضِ الخارج بسيولة وسلاسة من غير ضغوط تخلّ بشرط الحريّة، وهذا يمثّل الدليل الوحيد على حضور العقل المقترن بصحّة الشعور، يمكن النظر في هذا السبيل إلى فضاء الحريّة المطلقة داخل لحظة الانفراد القصوى بالذات الخالية من المرجعيّات والمتخلّصة من الحمولة الثقافيّة القَبْليّة التي تعيق حركة الحريّة بلا حدود، وإذا كان تحقّق هذا النوع من الحريّة عسيراً على مستوى السلوك الإنسانيّ لقوّة حضور الإشارات الضوئيّة في شارع الحياة، فإنّها لا تعاني هذه الصعوبة الكبيرة على مستوى التفكير إذ لا إشارات ضوئيّة تعيق حركة الفكر وهو يتجوّل في فضاء الرؤية والتفكير والمعرفة على طرق فضائيّة تنعدم فيها الأخطاء إلى درجة الصفر، لتتجلّى لحظة الانفراد بالذات هذه بوصفها لحظة الحريّة المُحَرِّضة على التفكير الحرّ بالمعنى الخاصّ والنادر 
للمفهوم. لا بدّ على وفق هذا المنظور من انعدام التأثيرات الجانبيّة على تجوهر العقل الحرّ المُنتِج مهما كانت سلطة هذه التأثيرات وقوّتها الاجتماعيّة والثقافيّة والعُرفيّة، ولا بدّ أن يكون الانفراد المطلق بالعالم الذي يمارسه هذا العقل في حالة توازٍ بينهما، وحالة التوازي بين الذات الحرّة المُفَكِّرة ومحيطها تعني التضادّ ولا تعني الخصام على النحو الذي يُنتج تفاعلاً مشاكساً مكتظّاً بحريّة الأداء والرؤية والتفكير والممارسة، فالعلاقة التضادّية بين الذات والآخر، بين العالم والآخر، بين المضيء والمعتم، بين الوجود الحيّ والوجود المؤجّل، هي العلاقة الأصل في تشكيل الديناميّة التي تُحرّك المتضادّات نحو توفير فرصة مثاليّة كي يلعب العقل الحرّ دوره في الإنتاج المعرفيّ الخالص.الذات بما تنطوي عليه من مرونة وحساسيّة ووجدانيّة تحاول أن تخترق العالم لأجل إثارته وتحريكه واكتشافه، العالم بطبيعته يمثّل فضاءً محجوباً ومغلقاً على ذاته ولا يسمح باختراقه وهتك أسراره بسهولة، وهو ما يحرّض الأنا بجبروتها الطاغي كي تفكّ أبوابه بما تحمله من لوحة مفاتيح مضيئة تسحر غيومه الكثيفة المعتمة، لأجل أن توغلَ في متاهتها حتّى تُلغيَ حجبها وترودَ أفياءها المحروسةَ بالظلال.
يتألّف العالم من نصّ كبير متعدّد الحجوم والزوايا والمساحات والتراكيب والدوائر، ويحتاج لأجل قراءته قراءة صحيحة لإمكانات قرائيّة ضخمة ودائمة ومستمرّة بلا توقّف، والذات هي القارئ الأوّل الذي يشرع بتكثيف قراءاته لاستحداث دروبٍ وشقّ طرقٍ تسّهل عملية القراءة والكشف، بوساطة رؤية كليّة وشاملة وكونيّة تقوم على منجزات التفكير الحرّ القادر على استلهام طاقة البحث والأخذ والجمع والمُراكمة، كي تتأسس العلاقة الصافية الولود بين العالم والذات على نحوٍ يتيح لفعّاليّات القراءة العمل داخل مناخٍ ملائمٍ من صحّة التفكير وصحوته. وبما أنّ النصّ متعدّدٌ وملتبسٌ يحتاج إلى قارئٍ متعدّدٍ فإنّ الحريّة التي هي بمقدار قدرة القارئ على التعدّديّة تتساوق مع قدرة العالم على الاستجابة لقوّة العقل القارئ، وهو ما يفتح سؤال الانتماء واللاانتماء، والهوية واللاهوية، ولاسيّما حين يُنظرُ إلى الانتماء بوصفه قيداً والهويّة بوصفها قيداً أيضاً، بما يحرّض التفكير الحرّ على أن يعمل خارج الفضاء الانتمائيّ والفضاء الهويّاتيّ لأنّ شرط الحريّة على مستوى التفكير يقوّض فكرة الانتماء والهويّة وما يرتبط بهما ويدور حولهما من مفاهيم وتمثّلات ثقافيّة.
الفلسفة هي البداية دائماً من نقطة صفر العقل بالمعنى الذي يكرّس إهمالها للمرجعيّات على أشكالها كافّة بما فيها المرجعيّة الفلسفيّة التاريخيّة، وهي تعتمد في ذلك على مثلّث معرفيّ – إنسانيّ يرتكز على ثلاثيّة (العقل والإرادة والقوّة) تحت رعاية محتوى مشحون بطاقة الحريّة، للوصول إلى حالة نموذجيّة لا تتكرّر وتشرعُ في تأسيس طرازها بصيغة ابتكاريّة أصيلة لا سابق لها ولا نظير.
بما أنّ المرجعيّات تُثقِل كاهل العقل المُفَكِّر بحمولات معرفيّة ضاغطة على حركته وتجلّياته ورغبته الجامحة بالانطلاق والانفتاح والتعرّي، فهي ضرورةً قيدٌ يتدخّل في جوهر حركة العقل كي يعقلنها ويرهنها بقواعده وتعاليمه وأخلاقيّاته وأيديولوجيّته، لأنّ القيمة الاعتباريّة للمرجعيّات مهما علا شأنها فهي معرفة سابقة والتفكير الحرّ يقوم على معرفة لاحقة لا سابق لها، من هنا تنشأ حالة الاصطدام المفهوميّ لأصل الحريّة، إذ ينبغي أن يتخلّى التفكير عن المرجعيّات مهما كانت مهمة خارج هذا الفضاء حتّى يتسنّى له الابتكار بلا ضغوط خارجيّة. من هنا تأتي فكرة التفلسف أي اللعب بالكلام من جهاته المختلفة وضخّه بما يتحصّل من نتائج آنيّة ومؤجّلة لتعضيد رؤيته للأشياء كي ينتج جديداً مبتكراً أصيلاً على صعيد التفكير 
والرؤية.