أخلاق السلطة: كيف تحولت حياتنا إلى فوضى بمعيّة الحكومة؟

آراء 2023/03/14
...

  محمد حاذور


بالرغم من أن الحضارة الإنسانية تمتد إلى آلاف السنين وتنطوي على آلاف الأشواط الطويلة التي خاضتها من أجل تهذيب وتشذيب بربرية الكائن البشري، لكنها، أي الحضارة، بكل معارفها وعلومها وإنجازاتها، لا تزال واهية وهشة، أمام البربرية المتجذرة بتكوين الإنسان: 


مجرد غياب القانون والرادع عن أي بقعة من الأرض، سترتكب جرائم القتل والسرقة والخطف والاغتيال؛ يحدث هذا في البلدان العصرية والحديثة والمتطورة والمتربية على العلم والمعرفة وما أنتجتهما من مفاهيم ونظريات ساهمت بخطوات كبيرة ومثمرة بما نحن عليه، فكيف بمن ينطوي على الخراب والفوضى والانفلات وتغييب الرادع الأخلاقي والمؤسساتي عنه. 

يقول كارل ماركس بما معناه: "عندما يصبح الواقع غير إنساني، ينبغي تغيير الواقع وليس الإنسان": يسافر الكثير من أفراد الشعب العراقي إلى إيران من أجل السياحة أو العلاج. والعبور من العراق إلى إيران لا يستغرق سوى سويعات. لكن التحول السريع بمنظومة الفرد العراقي، هو الذي ينبغي الالتفات إليه: لا يستطع المسافر العراقي رمي الأوساخ وأعقاب السجائر في أي مكان يتواجد فيه، وهذا ليس دليلاً على احترام الضيف للبلد المضيف، إنما فاعلية السلطة وحيويتها وصرامتها بكل تمفصلات الحياة اليومية. وعلى النقيض من الفرد العراقي، يأتي السائح الإيراني إلى العراق من أجل زيارة العتبات الحسينية والعباسية والعلوية، فتجده يتصرف بأخلاق الواقع المتواجد فيه، وتراه يرمي فضلات الأكل وأعقاب سجائره وغيرها في أي مكان يتواجد فيه. 

يتعلم الفرد، أول ما يتعلم، في كنف الأسرة، على المماطلة والكذب والخداع: بس تنجح أشتريلك كذا، ولن ينال مراده. هذا مثال على السلوكيات الكثيرة التي تمارسها الأسرة ولا تدرك خطورة ما تغرسه في أبنائها، بالخوص إذا أدركنا، إن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الشارع: مدرسة، دون ضوابط، لتعلم الأخلاقيات الشوارعية. تُتوَّج شخصية الفرد عندما يدخل المؤسسة التعليمية، الابتدائية وما يليها. وبصورة غير مباشرة، تبدأ مرحلة الفساد النظامي أو المؤسسة التفسيدية: أبناء الكادر التدريسي وأبناء الطبقة المرفهة وعلية القوم، لهم الحظوة والاحترام والدرجات الممتازة. الضرب والإهانة أمام الطلبة. النجاح في نهاية الموسم الدراسي عبر رشوة أو غيرها؛ هذه نماذج من الدروس التي يتعبأ بها الفرد. بعد أن تُبنى شخصية الفرد منذ صغره على الفساد، لِمَ الاستغراب أو الرفض من أن يمارس ما تعلمه من أسرته وبيئته ومؤسساته العلمية.؟

منذ سقوط بغداد وبداية الاحتلال الأمريكي للعراق فضلا عن تفكيك منظومة الدولة ومؤسساتها وهيكلتها ومحو إرشيفها أو سرقته، جاءت أمريكا بالديموقراطية الطائفية المحاصصاتية: من الأمور المشجوبة والمرفوضة في عموم الشارع العراقي وعلى المنابر والمنصات والقنوات الفضائية، هي الطائفية، وقد تتكون صورة علمانية أو ليبرالية عن الأحزاب كما تدعي، لكنها، أي الأحزاب، مسجلة في مدونات الدولة الديموقراطية وفق أدبيات طائفية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الدولة عبارة عن جهاز مفاهيمي متعدد المؤسسات التي يمثلها جميع طبقات المجتمع المدني: المعلم والمدرس والأستاذ والدكتور والطبيب والمهندس والضابط والمحامي وغيرهم. بمعية النظام المحاصصاتي الطائفي، تسنم هذه الوظائف، عبر الحزب والطائفة والعشيرة والمحسوبية والواسطة والرشاوى، كل من هب ودب، دون أي حسبان لما تنطوي عليه هذه العمليات في تعبئة المؤسسات بالجهلة والفشلة والأميين من خطورة وجرم وتخريب. وتمثلت هذه السلوكيات في أن جميع الشرائح المذكورة مارست السرقة من المال العام والرشاوي والتلاعب والتحكم بمصائر الناس ومقدارت البلاد. فإذا كان الرقيب والمسؤول والموظف يمارس الجريمة عبر منصبه، فكيف ستكون نتيجة ذلك على نفوس العامة من الناس.

ثمة عبارة يتداولها الشارع العرافي وأصبحت مسلم بها، ألا وهي عبارة "ماكو دولة". إن عبارة "ماكو دولة" أو "ما عدنا دولة" ليست صحيحة أبداً، بل إنها تبرير وتنزيه لأفعال السلطة عندما جعلت الجريمة بكل أصنافها مألوفة وشبه طبيعية. كل الخراب بجميع أشكاله وصوره وأبعاده، هو تمثلات وصورة وانعكاس للدولة التي تديرها السلطة عبر أنساق وسياقات تسمح لها ببقاء الوضع بخرابه وإمعاناً بازدياده. الدولة، عبارة عن مؤسسة، تنعكس على الواقع، بأشخاص وقوانين ومؤسسات وسياقات. خذ مثلاً، التجاوز على الأملاك العامة، الساحات والأرصفة. هذا التجاوز غير القانوني واللا أخلاقي، أصبح عرفاً اجتماعيا لا ترفضه الناس ولا تحاسب عليه مؤسسات البلدية. فمن هذه الحالة، يمكن أن ترى أن المواطن أصبح مشاركاً بالفساد دون أن يدرك، وفُرض عليه سياقاً لا يستطيع السير عكسه. فمبقدور من يدرك، أن يرى السياقات والأنساق التي غضت الطرف عنها السلطة لتكون ممارسة اجتماعية معمولاً بها، وليس بمستطاع الفرد البسيط رفضها.

منذ هيكلة منظومة الدولة وتطييفها بجهود المحتل، يعيش المجتمع العراقي في وهم كبير: الحرية والديموقراطية. بينما يقول الواقع إن البلاد بما فيها وما عليها تعيش وتمارس الانفلات بكافة أشكاله وصوره: سُلبت من الفرد العراقي قيمه وأخلاقه وما ينطوي على معنى وجوهر لأن يتحول إلى فرد عشوائي وفوضوي دون وجود أي رادع أو مانع عن القتل والسرقة والجريمة وتخريب المصالح العامة واستغلالها للمنافع الشخصية، وسادت الفوضى بمرأى من المؤسسات والأخيرة ليس لديها نية أن تمارس عملها وتكون فاعلة لأنها ستجهز على عمرها إن جربت العمل الجاد والوطني.