غواية الجسد ونكرانه

منصة 2023/03/16
...

  دعد ديب                                   


لطالما شغل الجسد كموضوعٍ بكثافة دلالاته؛ وتكوينه؛ ووظائفه؛ الفكر الإنساني والفلسفي عمومًا، ومع ذلك كان وما يزال من الموضوعات المغيّبة والمنسيّة والمسكوت عنها في هذه المنطقة من العالم، منطقتنا العربية بسبب من الرهبة التي تكتنف تفاصيله ومعانيه، رغم أنه حاضر بقوة في اللاوعي الجمعي والمكبوت الاجتماعي، وعلى الرغم من أن هذا الجسد المسكوت عنه هو شكل الوجود الحقيقي للإنسان ولا وجود فعليا ملموسا من دونه.


 إلا ضمن تخيلات وافتراضات ميتافيزيقية، وباعتبار أن الحاضر الملموس هو اللحظة التي يبرز الوجود من خلالها وكل ماعداها من ماضٍ يبرز في سراديبه، والمستقبل متعلق بالإمكانيات التي يتيحها هذا الحاضر الذي هو مسرح الوجود الواقعي، وإذا تجاوزنا السؤال الفلسفي القديم عن أولوية الروح أو المادة وأسبقيتهما في الوجود ومن منهما علة الآخر، يبقى الجسد تجلٍّ ملحوظ وواضح للوجود المادي.

فلطالما حذرت الديانات من إعطاء الجسد أهمية وقيمة على حساب الروح أو النفس التي تتحرر فيها من طغيان المادة والتي ترتقي بعد انفصالها عنه إلى الملكوت الأعلى بينما الجسد فانٍ، وهو في حالات عدة موئل الرذيلة والفاحشة ومثواه الأخير إلى التراب، هذا الأمر الذي يسيطر على المخيال الشعبي في غالبية مجتمعات الشرق، على الرغم من أن مفهوم الجسد يشكل بوابة لفهم الكثير من العلاقات الاجتماعية والبنى الفكرية التي تحكم مجتمعًا ما بما يتعلق بعلاقة الفرد بجسده وعلاقته بجسد الآخر.

 لقد حفلت النقوش الأثرية القديمة بالكثير من رموز الجسد في الخصب والخلق والديمومة، وما رمزية النجمة السداسية التي تلحظ رسمها في اركيولوجيا العمارة القديمة سواء في وادي النيل أو الفرات أو بلاد الشام إلا انعكاس لمفهوم عميق للإرث المثيولوجي للمنطقة وهي رمزية الذكر والأنثى في وضعية الخصب الأولى من تداخل مثلثين الأعلى للذكر والأسفل للأنثى في تأسيس قديم لدور الجسد في قصة الخلق الأولى، وقد تمت السيطرة من قبل جهات عدة على هذا الرمز واتخذت منه علامة كاذبة لها تمهيدًا لسرقة تاريخ المنطقة وأساطيرها ورموزها، فلقد كانت ظاهرة عبادة الربَّات في المثيولوجيا القديمة (عشتار - انانا - افروديت - ايزيس) تجليا طبيعيا لدور الأنثى البيولوجي الواهب للحياة باعتبارها الرحم الوالد لكل من الذكر والأنثى، وتشهد التماثيل التي وجدت من الأحقاب الدارسة على عناية الفنان القديم بتضاريس الثديين والبطن كمصدر للخصوبة والأمومة والحياة بعيداً عن أي إغواء أو إغراء، مما يفسر سبب تقديسه لها فالرحم هو السكن الأول للإنسان، الأمر الذي انعكس مع سيطرة النساء على مقاليد الحكم حيث سادت في مرحلة ما ظاهرة النساء الملكات، هذا الدور الذي تراجع مع ازدياد الهيمنة الذكوريَّة وظاهرة القوة العضليَّة وترافقت مع بروز الديانات التوحيديَّة، إذ تراجع دورها الاقتصادي وتم إقصاؤها عن الحياة المنتجة وبات جسد المرأة مكاناً للثأر والانتقام والسبي في الحروب والغزوات منذ حروب اسبارطة وأثينا، وارتبط مع الدنس والإغواء حيث الحيض والحبل والولادة دنس لا تقرب فيه المرأة أي مقدس، برز بالقول التوراتي في سفر التكوين الذي كرّس ذات الفكرة مدعمة بالهيمنة الذكوريَّة: 

وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: (تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ). 

 وعلى الرغم من أن طقوس الإيمان جسدية بحتة، يتم دحر الجسد وتكبيله بالكثير من المفاهيم المغلقة، ولعل خوف الرجل من المرأة وطاقتها وعدم فهمه لغموضها دفعه إلى محاربتها وإقصائها، إذ ارتبط جسدها بالخطيئة والغواية، فمن أشهر قصص الإغواء حكاية إغواء حواء لسيدنا آدم في معصية أكل التفاحة من شجرة المعرفة التي حرّمها الله عليهما، والتي على أثرها ميّزا أعضاءهما الجنسيَّة، وعرفا أنها منطقة غامضة وجاذبة يجب إخفاؤها، وتوجيه فكرة نسب الغواية للمرأة وظليها (إبليس والأفعى) في ثالوث الغواية على الرغم من اشتراك الاثنين معًا بالفعل المُنهى عنه، إذ ارتبطت المعرفة منذ آدم وحواء بإدراك الجسد، عندما أدركا العري وما يعنيه ذلك من غموض وإغواء، فعمدا إلى إخفاء ما يثير هذه الرغبة ويؤججها، الأمر الذي أخذ بعدًا أساسيًا في التصورات والحكايات الميثولوجية وفي الأديان السماوية كما في النظريات الحديثة لعلم النفس وعلم الاجتماع، فما يطلق عليه في علم النفس "بهوامات" الرغبة التي تُضاف إلى الدافع الغريزي أي ما يرافق الرغبة من تخيلات وتهويمات والتي لا مراء في صفتها البشرية، لأنها لا توجد عند الحيوان والكائنات الأخرى. 

 وهناك القصة الشهيرة الأخرى ووقائع الإغواء بقصة سالومي مع الملك هيروديت لتقديمه رأس القديس يوحنا المعمدان على طبق من فضة، والتي وظفها الفن السابع في الكثير من عروضه، فما هي الغواية؟ أليست تلك الرغبة دفينة وموجودة أصلًا في ذات الإنسان أليست هي الشرارة المحركة للوجود والخلق؟ فلماذا يتم امتهانها ونكرانها وتحميل المرأة آثامها وعواقبها. 

إنَّ أغلب الآراء الشائعة والأفكار المسبَّقة أو المنمِّطة ترتكز كلها على شكل الجهاز التناسلي ووظيفته، لدى الرجل والمرأة، مع أنه في الحالتين جهاز تناسلي، يتحدد شكله بوظيفته البيولوجية، مثلما يتحدد شكل جهاز التنفس وجهاز الدوران وجهاز الهضم، التي تتضافر كلها في إنتاج الطاقة الحيوية، ولكن المفارق في الأمر أن المجتمع يعد المرأة وفق تنميط معين يضمن من خلالها قولبة عقل المرأة وجسدها بما يتناسب مع أطره العامة وأعرافه وقوانينه، وتصبح مارقة كل أنثى تغامر بالخروج عنه، فعندما تدخل الفتاة سن البلوغ يتم تدريبها على الأعمال المنزلية من غسل وكنس وطبخ وخدمة الذكور في الأسرة، ومعيار تميزها الإتقان المبالغ فيه لهذه القضايا وبعدها يتم توجيهها للاهتمام بمكياجها ومظهرها خوفًا من أن يفوتها قطار الزواج والقيام بالوظيفة التي حدد المجتمع أهمية وجودها فيه وحسب، إذ تصبح علاقة المرأة بجسدها ملتبسة بين الحلال والحرام، فقبل الزواج يتم إخفاء الجسد وتخفي حاجاته ويتم التنكّر لها، وبعد الزواج بقدرة قادر يجب أن تنتقل للنقيض الأمر الذي ينتج شرخًا بنيويًا في منظمومتها النفسية وفي وعيها وفهمها لجسدها، بصفته ملكية لها أم لغيرها.

  تقول سيمون دي بفوار"الإنسان لا يولد امرأة بل يصبح كذلك فيما بعد" ومن الأكيد هنا أن المقصود ليس تركيبتها البيولوجية وإنما كيانها الفكري والاجتماعي والنفسي فالوظيفة الجنسية التي ينتج عنها الحمل والإنجاب تحددان شكل فاعليتها إذ يتم التأكيد على أولويتها، وخصوصًا بالمجتمعات الشرقية، هذه الأولوية التي تعطل كينونتها الأخرى الفاعلة، وكثير من الحوارات التي نسمعها أن أقدس وظيفة للمرأة هي الأمومة، وباسم الأمومة تمتهن إنسانيتها ووجودها من قبل المجتمع بعامته، فهنا يتراوح جسد المرأة بين التدنيس والتقديس، أو تنطلي عليها خدعة التقديس لتمرير أشكال وتلاوين الامتهان الأخرى، إذ باِسم هذه الوظيفة وخوفًا من فوات العمر من دون تحقيقها تصادر طموحات المرأة بالعلم والسفر والإبداع، ويُشيَّأ جسد المرأة على الرغم من انه بيت الوجود الإنساني  الذي خرج منه الجنس البشري، فعندما تفهم كينونة المرأة كجسد فقط ومصدر للغواية يتنازع الرجل نازعان رغبته بها ورفضه لها، وليس بغريب أن الرجل لا يشعر بالرغبة بزوجته الأم للتناقض الذي يعيشه بين قدسية جسد الأم وإثم الرغبة التي لا تجوز هنا، وفي الحالتين تجرد المرأة من حاجاتها وكينونتها ورغبتها الخاصة كحالة إنسانيّة طبيعيّة .

فالجسد المدنس المقموع والمهان لا يكتسب قدسيته أحيانًا إلا بالموت، فالفرد هو الجسد الذي يحمل معاني مركبة اجتماعية ووظيفية ورمزية فكما أنه ليس ثمة تناقض بين الأبوة والغريزة أو الرغبة فيجب أن يقابلها منطقيَا توافق بين أمومة المرأة ورغبتها، هذا إذا تم الاقتناع بوجودها المستقل وكونها مالكة حصرية لجسدها، كما أن الاهتمام المتزايد بتضاريس الجسد الخارجية في الثقافة الاستهلاكية الدارجة، واستخدام الجسد في الميديا والإعلانات من خلال العري والغواية، ومن خلال عناوين براقة للتحرر والانعتاق ما هو إلا صورة أخرى من استلاب كينونة المرأة واختزالها إنسانيتها بالجسد وحسب، وما يضمره هذا من بث رسائل رمزية للآخرين للإعجاب به والتغني بتفاصيله، فلا نستطيع القول إن الزمن الحديث أنصف المرأة، على العكس استثمر جسد المرأة للإعلام بغايات استهلاكية محضة فيها استلاب لعقلها ودورها الفاعل في الحياة بشكل عام، رغم أن هذا الجسد محفوف بأخطار المرض كالضغط والسرطان والقلب وسواها باعتبار الجسد ظاهرة اجتماعية وظاهرة طبيعية يمكن تحليلها أيضًا بوصفها وسطًا متعدّد الأبعاد لتكوين المجتمع. 

فالتصور الحديث للجسد متعلق بفهم الفردية لدى الكائن البشري وبغض النظر عن الأجهزة التناسلية، فكل ذكر فيه نسبة من الأنوثة كما في كل أنثى نسبة من الذكورة بتباينات متعددة وفق تفسير كارل يونغ في الانيما والانيموس، حيث الانيما الجانب الانثوي بالذكر والانيموس الجانب الذكوري بالأنثى، والمتغيرات النفسية والاجتماعية أسهمت بتحديد الأدوار الجنسية والهوية الجندرية لكل منهما، كما أن فهم الأنوثة والذكورة شيء وفهم الإمكانيات العقلية للرجل والمرأة شيء آخر، وبناء عليه ستظل العلاقة بين المرأة والرجل ثنائية معقدة الخيوط لحكاية صالحة أن تحكى في كل الأزمان لأن العلاقة قائمة على اضطراب الهوية ما بين التبعية والتكاملية، التفاضلية والتجاورية المتكافئة بالتوازي والتوازن بمعنى موقع المرأة الانطولوجي في كينونة الرجل وأثر العقلية الذكورية وخطابها في التحكم وإعادة التشكيل الإنساني الطبيعي لكينونة المرأة. 


المصادر : 

- كتاب الجسد المخلوع- ابراهيم محمود –رياض الريس للكتب والنشر عام 2009

-كتاب انتربولوجيا الجسد والحداثة –دافيد لوبروتون- مجد/المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع عام1997 

- مقال لـ جاد الكريم الجباعي بعنوان: "مابعد السيطرة على جسد المرأة" مجلة 

العرب 10 /9 /2017