عطية مسوح
ما إن يجلس أحدنا – نحن كبار السنّ – مع الشباب حتى يأخذ وضع المعلّم الخبير، ويمارس دور الناصح الواثق من صحة أفكاره وأقواله، والمتيقّن من أهمّيّة تجاربه، والمكلّفِ بنقلها إلى الناشئين والشباب. نفعل ذلك لأننا ننطلق من أن ما مررنا به نحن – الكبار – وما قرأناه، وما نحمله من قيم وأخلاق، هي الكنز الذي علينا أن نفتحه أمام الشباب ليأخذوا منه ما يأخذون.
نريد من الشباب أن يقبلوا على كنوزنا ونستهجن أن نجد لديهم ما هو غير متوافق مع هذه الكنوز. أمّا هم، فقد يقبلون عليها ويتفحّصونها، ليجدوا – وفقاً لمقاييسهم ورؤاهم – أنّ الكثير ممّا في «كنوزنا» صار عملة قديمة لا تنصرف في أسواق اليوم، أو هو عملة زائفة أصلاً، لأنها تقوم على أوهام ورثها جيلنا عن أسلافه، فكبّلت حركة المجتمع، وأمعنت في جعله هشّاً أسير عادات وتقاليد سلوكية وفكريّة عفا عليها الزمن.
ولو تحلّينا بالموضوعيّة لوجدنا أنّ علينا نحن أن نقرأ الشباب جيداً ونتلمّس طاقاتهم وقدراتهم، ونتفهّم تطلّعاتهم، ولأدركنا أنّ علينا رسم خطوط جديدة للعلاقة بيننا وبينهم، تختلف عمّا ألفناه من علاقة جيل سابق يجيل لاحق، علاقة تبادليّة شاملة، لا تقتصر على تبادل المحبّة والتعاطف والثقة والألفة فقط، بل تصل إلى تبادل الاحترام والمعرفة، بعيداً عن التعالي الأبويّ والزهو المعرفيّ والاعتداد بالتجارب والخبرات. إنّها – باختصار – علاقة فيها القليل من الأبويّة والكثير من الندّيّة.
ولو كنّا منصفين لقلنا إنّ الشباب يمكن أن يقدّموا لنا – نحن الكبار – ما لا نعرفه فعلاً، وذلك لأنهم يمتلكون ثلاث سمات إيجابية كبيرة لا نمتلكها نحن، أولاها مرونة العقل والحواسّ، وهي سمة تجعل أثر المعلومات الجديدة فيهم أكبر من أثرها فينا. وثانيتها سرعة التعلّم والحفظ والاستيعاب، وتوقّدُ أجهزة الالتقاط والتذكّر، وثالثتها العيش في العصر حقّاً، فالشباب لا يحملون – بالقدر الذي نحمل – موروثاً يقيّدهم ويمنعهم من التفاعل العميق مع الجديد، ولم يقعوا أسيري عادات ترسّخت فيهم بالتراكم والتكرار، وصارت حائلاً دون الخروج على المألوف.
وكثيراً ما ندرك – نحن الكبار – أن هذه السمات الثلاث متوفّرة لدى الشباب، وإنها تَضعُفُ على التدريج بعد تجاوز مرحلة الشباب من أمثالنا، ولا سيّما لدى من لا يمارسون القراءة والتفكير وتدريبَ الذاكرةِ والقدرةِ على المحاكمة العقليّة، أقول كثيراً ما ندرك ذلك ولكنّنا لا ننطلق منه في التعامل مع الشباب، ولا نترجمه إلى ثقة بهم وبقدراتهم، ولا نأمن لقدرتهم على اتّخاذ مواقف صائبة حيال ما يواجههم ويواجه مجتمعاتهم من مشكلات.
إنّنا نعيش في عصر التقدّم العلميّ المتسارع، والتطوّرِ الذي يذهل العقول. ونري بأمّ العين كيف يتفاعل أغلب الشباب بسرعة وحيويّة مع منتجات العلم الحديثة، بينما يقف الكبار مندهشين متحيّرين أمامها، ولا يستطيعون الإفادة منها إلاّ بمساعدة الشباب، ومع ذلك تظلّ إفادتهم محدودة، تقيّدها بنيتهم الذهنيّة التقليديّة التي أضعف الزمن مرونتها. إنّ أبناءنا وأحفادنا هم الذين يقدّمون لنا المساعدة في سعينا إلى التفاعل مع الحاسوب الكبير والصغير، هم المستشارون الذين نلجأ إليهم لحلّ أيّة معضلة نواجهها ونحن نحاول دخول العصر من نافذة منجزاته العلميّة، فكيف نحتفظ بمهمّة الواعظ والمرشد؟ وكيف نلعب دور الموجّه على مسرحٍ لسنا من أبطاله؟! لا مهربَ لنا من العودة إلى هؤلاء المستشارين، وإنّني – كلما عدت إلى أحدهم – أتذكّر قول المتنبّي الخالد:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت/ منّي بحلمي الذي أعطت وتجريبي فما الحداثة من حِلمٍ بمانعة/ قد يوجد الحِلم في الشبّان والشيبِ
ولعلّ المتنبي، لو عاش في أيّامنا، لعدّل في قليلاً في البيت الثاني، فحرف التقليل (قد) سيتحوّل إلى حرف للتحقيق والتأكيد، فالحِلم وُجد لدى الشباب فعلاً وعلى نحو رائع، وصار من ضربَ الشيبُ رؤوسَهم يستعيرون من الشباب الحِلم والمعرفة.
أريد ألّا يُفهم من كلامي هذا أنّ الشباب في غنى عن الاطّلاع على معارف آبائهم والإفادة من تجاربهم، فمن البديهيّات أن معارف البشر تتراكم، وأنّ كلّ جيل يضيف شيئاً جديداً إلى معارف سابقيه، ومن البديهيّات أيضاً أنّ مسيرة البشر المعرفيّة قامت على دراسة التجارب واستخلاص الدروس اللازمة واستلهام ما فيها من نقاط قوّة، أي تحويل تجارب السابقين إلى خبرة إنسانيّة تنمّي القدرات والمعارف. وكلّ ما أريده من طرح هذا الموضوع هو ألّا نستصغر قدرة الشباب، وألّا نقيّد عقولهم «بحكمتنا» و»معارفنا» وأن ندع لهم حرّية التفكير والتفاعل مع معطيات
زمنهم.
وإذا كانت هذه النظرة إلى الشباب والتعامل معهم مطلوبة منّا على المستوى الفرديّ فهي مطلوبة أكثر وأكثر على مستوى المؤسّسة التعليميّة في بلداننا العربية التي ما يزال التلقينُ وعدمُ احترام شخصيّة المتعلّم (الطفل والشابّ) قائمَين فيها. ولعلّ جوهر التغيير المطلوب في هذا المجال هو ما قاله المفكّر المصريّ الراحل خالد محمد خالد: «أن يدرك الطفل أنّنا لا نعلّمه بل ننقل إليه معارفنا»، ويقترح أن نتجنّب صيغ الأمر والنهي، كأن نقول للمتعلّم «من الأفضل أن تفعل كذا» بدلاً من قولنا «لا تفعل» أو «افعل»، ليكون التعليم إسهاماً في بناء الشخصيّة الإيجابيّة.
تقتضي الموضوعيّة ألاّ نمارس دور المعلّم المتعالي في تعاملنا مع الشباب، فهم أعلم وأكثر قدرة مما نتصوّر.
كاتب وباحث سوري