عباس مهدي من رموز الاعتدال الوطني في السياسة العراقيَّة

منصة 2023/03/26
...

  شميران اوديشو


صدر مؤخراً عن دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر كتاب يتناول حياة وسيرة رمز من رموز الاعتدال الوطني في السياسة العراقيَّة عباس مهدي، عاش للفترة من 1898 لغاية 1961. ويعد دراسة تاريخية كتبها الأستاذ الباحث محمد عبود سعد الساعدي في 344 صفحة من القطع الكبير، تمت مراجعة الكتاب من قبل الاستاذ الدكتور علي ناصر حسين. 


ويعد الكتاب من الدراسات الموضوعية التي تناولت شخصية عباس مهدي، وهي شخصية أدت دوراً مهماً في تاريخ العراق الحديث، إذ تقلّد وهو في مقتبل شبابه مناصب إداريَّة متنوعة إلى جانب دراسته الأكاديميَّة، وتمكن من إجادة لغات عدة. ومنذ عام 1931 تولى مناصب رفيعة على المستوى الوزاري والإداري والدبلوماسي، وكان حريصاً على إداء واجباته الوطنيَّة داعياً الحكومة  للاهتمام بالشعب، ولا سيما الفقراء منهم. 

كتب الدكتور عادل تقي عبد البلداوي، أستاذ الفكر السياسي في الجامعة المستنصرية في تقديمه للكتاب، إن عباس مهدي كان يمثل الاعتدال الوطني عموماً، والشيعي خصوصاً، فالرجل كان متحرراً من الطائفيَّة والمذهبيَّة والعنصريَّة، انتمى وهو في شبابه إلى الجمعيات التي كانت تمثل اليسار القومي والتي كانت تنادي بتحرير العراق من التبعيَّة الأجنبيَّة؛ لذا ظل الرجل يحلم بعراق موحّد، يكون أبناء شعبه كتلة متراصّة تقف موقفاً واحداً في السراء والضراء. كان يحلم أن يكون الشعب مصدر السلطات، فقد كان ينادي بأعلى صوته في أروقة البرلمان أن يكون الشعب أولاً والحكومة ثانياً، بتعبير أوضح كان يطالب دوماً أن تكون الحكومة في خدمة الشعب. 

الفصل الأول يتناول جذوره الاجتماعيَّة وانعكاساتها على نشاطاته الفكريَّة والإداريَّة للفترة من 1898 لغاية 1931، إنّه ينتمي لأسرة (بجه) وهي من الأسر العربية البغداديَّة معروفة بممارسة التجارة في بغداد منذ القرن الثامن عشر، وكان جدهم شخصية دينية متعلمة مارس وأولاده التجارة.. وتزوج عباس مهدي من جميلة درويش علي التي تنتسب إلى بيت الغبّان. وبذل جهدا كبيراً في سبيل تربية أولاده، فكان من الطبيعي أن يكملوا تعليمهم ويتبؤوا مناصب سياسية واجتماعية فيما بعد. 

درس عباس مهدي في مدرسة (مكتب الترقي الجعفري العثماني) التي تأسست في عام 1908 خاصة بأبناء الجعفريَّة، كان يدرس فيها عدد من اللغات الأجنبية، وأثبت فيها امكانياته العلميّة والفكريّة، وساعد جده محمد في الترجمة لإتمام صفقة تجارة تصدير جلود إلى الولايات المتحدة الامريكية، فأعطاه جده ساعة ثمينة هدية لمساعدته.  ونتيجة لقيام الحرب العالمية الأولى توقفت الدراسة وتوجه نحو العمل التجاري لفترة قليلة، وبعدها إلى السلك الوظيفي وبقى حبّه للدراسة ورغبته في التعلم أكبر من وجوده في المناصب الإدارية، لذلك قرر إكمال دراسته بعد تشكيل الحكومة العراقية، فتوجه للدراسة في كلية الحقوق بعد أن تمَّ الاعتراف بشهادة خريجي المدرسة الجعفريَّة، وتمت معادلتها بدبلوم بكالوريا ثانوية، وأثبتوا إمكاناتهم العلمية فيما بعد، وأثبت قدرته العلمية أمام أساتذته على الرغم من اختلاف المنهج وصعوبته، وحصل على شهادة علم الحقوق عام 1927، وحرصاً على لغته العربية استقدم مدرساً خاصاً بسبب اتباع الدولة العثمانية سياسة تتريك الأمم التي تعتمد عدم التركيز على دراسة المناهج باللغة العربية وقواعدها. وكانت محصلة هذه الدراسات واجتهاده الخاص إجادته لست لغات اجنبية، فضلاً عن اللغة العربية كما ذكر مير بصري في كتابه. وقد أثبت في بداية حياته ونشأته انه يتمتع بقدرة علمية وثقافية جعلته يتبوّأ مناصب ادارية متنوعة أسهمت بصقل شخصيته فيما بعد وأهلته، لأن يتقلّد عديداً من المناصب الادارية والوزارية. ومن بواكير نشاطاته أنه أسهم في تأسيس الجمعيات السياسية والفكرية، وعرف بصراحته الكبيرة التي عدها مشكلته الأساس، ووقف إلى جانب حرية التعبير والحريات الأخرى، ودعمها ضمن الحدود المنطقية ودعا إلى اشراك أفراد الشعب في الأمور كافة. واطلاعه عليها وهذا ما عرضه إلى مضايقات كثيرة بسبب كلامه الصريح وانتقاده لسياسات الحكومات. وانخرط عباس مهدي في الكفاح الوطني والقومي منذ أيام شبابه الأولى إلى جانب اهتمامه الكبير بالقضايا الوطنية وأولى اهتماما خاصاً للقضية الفلسطينية، وأيضا تخليص العراق من سيطرة الاستعمار البريطاني على مقاليد الأمور في البلاد. واهتم بإدامة العلاقات الجيدة بين الشعوب العربية والإسلامية.  أما الفصل الثاني فقد تضمن أبرز المناصب الوزارية التي شغلها عباس مهدي للفترة من 1932 لغاية 1938، كوزير للمعارف في وزارة ناجي شوكت، اهتم بالمناهج العلمية ودراسة اللغات الأجنبية، وأيضا تغيير ساعات الدروس. وكان يتابع عمل وزارته ميدانياً من خلال الزيارات التي كان يقوم بها بين فترة وأخرى واستغل المناسبات الوطنية والعلمية التي تقام في المدارس ومنها ذكرى الثورة العربية 1916 التي اقامتها مدرسة الاعدادية المركزية عام 1933 فأخذ يحث الطلاب على مستقبلهم والنهوض بواقع العراق من خلالهم.  كما اهتم بالبعثات العلمية اهتماما كبيراً رغبة منه في رفد العراق بنخب علمية رصينة، فوضعت وزارة المعارف جدولاً لاختيار طلاب البعثات على أساس مراعاة أعلى الدرجات في امتحانات البكالوريا الثانوية. كما اهتم بفتح مدرسة الفنون البيتية لتعليم البنات، وكانت في البداية عبارة عن صف واحد بلغ عدد طالباتها 58 طالبة. وانشأ دور المعلمين وتأسيس مدرسة زراعية ريفية وشجع الأعمال اللاصفية لما لها من أثر فاعل في تكوين شخصية الطالب، فوضع لها مخصصات مالية وقسمها على ثلاثة محاور رئيسية هي التربية البدنية والكشافة والفتوة. وفي مجال مكافحة الأمية اتخذ منهاجا جديداً فتم فتح المدارس المتوسطة، لمن يرغب بتعلم القراءة والكتابة في خطوة للتقليل من الأمية المتفشية في العراق. وأسهم في دعم فكرة تأسيس المدارس الابتدائية المختلطة. كما كانت له وقفة وطنية تجاه تراث وحضارة العراق والمحافظة عليه حينما إتخذ موقفا صارماً ضد تصدير أي من قطع الآثار العراقية، وهو موقف اتخذه حين علم بتهريبها خارج العراق. 

وكوزير للاقتصاد والمواصلات في وزارة جميل المدفعي الثانية ووزارة حكمت سليمان ووزارة المدفعي الرابعة للعدل، حيث حدد عباس مهدي منهاج وزارته بإنجاز المشاريع العمرانية المقررة على جدول اعمال الحكومة التي لها إثر على الواقع الاقتصادي لأبناء الشعب، وركز على إعادة النظر في بعض الأسس الخاصة بالوزارة وتشكيلاتها. 

ومن المشاريع التي قام بتطويرها كان ميناء البصرة من خلال انجاز مشروع حفر سد الفاو وجاء في منهاج وزارته انشاء الجسور التي تعد من شرايين الحياة المهمة كونها تسهل الاتصال بين أجزاء المدينة الواحدة أحيانا والربط بين المدن في أحيان كثيرة. واهتم بقضية اجور الكهرباء والاذاعة اللاسلكية وأولى اهتماما كبيراً في مجال الري، واهتم بالمحاكم فأخذ يقوم بجولات ميدانية ليقف بنفسه على أوضاعها واحتياجاتها، كما وسعى إلى الاهتمام بالسجون وبدائرة الطابو. وعندما أصبح عضوا في المجلس النيابي كان مواظباً في حضور جلسات المجلس، ويولي اللوائح التي تعرض أهمية كبيرة. وفيما بعد أصبح نائبا عن لواء بغداد في دوراته الخامسة والثامنة، وتقلد مناصب إدارية مهمة للفترة من 1933 لغاية 1941 فكان مديراً للطابو وبإرادة ملكية أصبح رئيساً للتشريفات الملكية، وكان يقوم بعرض القضايا والمخاطبات الرسمية على الملك وتبليغ الأوامر الملكية الصادرة عنه. 

أما الفصل الثالث فيتناول دور عباس مهدي الدبلوماسي ومواقفه في مجلس الاعيان للفترة من 1942 لغاية 1957 ونشاطه في العهد الجمهوري حتى وفاته عام 1961 فقد تولى منصب وزير مفوض في ايران، وشغل منصب أول وزير مفوض في الاتحاد السوفييتي من 1945 لغاية 1947 بإرادة ملكية بعد أن أدى دوراً مهماً في تأسيس العلاقات بين البلدين ولا سيما حينما كان وزيرا في مفوضية طهران وجاء اختياره مرتكزا على حقائق موضوعية اثبتها بجدارة خلال عمله الدبلوماسي. ومن جديد اختير عضوا في مجلس الاعيان بعد عودته إلى بغداد عام 1947 إلى 1957 وأدى دوراً بارزاً في مناقشات جلسات المجلس ولا سيما الأمور التي تهم الشعب، وكان يعارض بحماس المشاريع الاستعمارية، وكان من الاعضاء الذين يبثون روح الشباب في نفوس الأعضاء الآخرين، حتى وصف بالبطل المغوار من جانب اعضاء المجلس. طالب من الحكومة بأن تنظر بجد في قضية تمليك الأراضي على أساس الملكية الصغيرة تحقيقا للعدالة الاجتماعية ورفع مستوى المعيشة وضمان الاستقرار، مؤكدا أن الفئة التي تملك الأراضي تستغل جهود الفلاح. كما سعى إلى حث الحكومة على انصاف المتقاعدين الذين يتقاضون تقاعداً بسيطاً، مبينا أن الحكومة إذا أرادت التقرب من الشعب، فعليها أن تضمن العدل الاجتماعي والاستقرار، وفي الوقت نفسه الالتفاف إلى احدى الطبقات المغدورة المظلومة، وهم طبقة المستخدمين والرزامين والمضمدين والفراشين وغيرهم، وليس من العدل أن يترك هؤلاء بعد قيامهم بخدمة البلاد لمدة طويلة من دون أن توفر لهم سبل الراحة في كبرهم. وعلى الرغم من أنه كان من المحسوبين على المؤسسة الحاكمة إلا أنه تميز بكثرة انتقاده لسياسات الحكومة ولم يجاملها على قول الحق. 

ترك عباس مهدي أثراً محموداً لدى أبناء الشعب العراقي خلال عمله السياسي أبان الحقبة الملكية، وكان كثيراً ما يحذر الحكومات السابقة لتعديل سياستها تجاه أبناء الشعب، لكنها لم تكترث، لذلك حدثت ثورة 14 تموز 1958. عاد بعدها إلى مزاولة الأعمال الإدارية الحرة وأختير مفوض لشركة سمنت الفرات، وهي شركة مساهمة صناعية واستمر يشغل المنصب لغاية 1960، وقدم استقالته بسبب تدهور صحته التي لم تساعده على القيام بمسؤولياته إلى يوم وفاته 15 آذار 1961.. وختاماً تضمن الكتاب عدداً من الملاحق والرسائل المكتوبة بخط يده، فضلاً عن مجموعة صور توثق حياته العمليَّة والأسريَّة.