تحرير الرها في سادس أيام رمضان

استراحة 2023/03/28
...

زخر اليوم السادس من شهر رمضان الكريم، بالعديد من الأحداث التاريخيَّة على مرِّ الزمان، وشهد الكثير من الوقائع والفتوحات الإسلامية، ومنها انتصار المسلمين على الصليبيين في مدينة الرها سنة 532 هجرية.

وتعد مدينة الرّها من أمهات مدن إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات. وهي تقع بين الموصل والشام إلى الشمال من مدينة حلب، واسمها بالرومية أديسا، «وسكانها تنوّعت أصولهم ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية منتمية إلى الآراميين، وقد اعتنقوا المسيحية. وتعدُّ مدينة الرها أهم أمكنتهم الدينية والتاريخية». وكان الذي فتحها هو الصحابي عياض بن غنم سنة 17هـ. وكان فتحها صلحاً «ودخل أهل سائر الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح». وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية وتُدعى (أورفا).

وقد وصفها الحميري في (الروض المعطار) فقال: الرهاء - بضم الراء والمد - مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. 

والرهاء مدينة رومية عليها سور حجارة تدخل منها أنهار وتخرج عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات.

وقد احتل الصليبيون الرها سنة 1097م، ونظراً لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والدينية، فقد أنشؤوا فيها إمارة صليبية كانت هي أولى إماراتهم في الشرق.

وكانت إمارة الرها هذه أكبر وأخطر مستعمرة صليبية في المشرق بعد مملكة بيت المقدس، وكان خطرها يرجع إلى كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين وليس على الساحل، كبقية الإمارات الصليبية، وكان وجودها في داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حداً فاصلاً بين الأتراك السلاجقة في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة أخرى.. هذا من ناحية.

كما كانت هذه الإمارة، من جهة ثانية، مصدر خطر كبير على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل إلى مدينة حلب، وكان جوسلين (كونت الرها) يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها.

ولم يكن عماد الدين زنكي غافلاً عما كان يقوم به جوسلين كونت الرها وقواته من تحرشات واستفزازات للمسلمين، لكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية لهذه الإمارة الصليبية المعادية. 

وهكذا وضع عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه، وأعدّ لذلك خطة محكمة أحاطها بالسرية التامة، كما أنه لم يُظهر أي سوء نية تجاه أميرها (جوسلين)، وذلك لضمان نجاح الخطة وعدم فشلها؛ ذلك أن الكونت جوسلين إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة، كان معروفاً بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزاً بالكفاءة القيادية والإدارية.

وحينئذ كان سيتعذر على جيش عماد الدين مواجهة قوى الصليبيين مجتمعة، بطبيعة الحال، كما يتعذر عليه اقتحام قلعة المدينة المعروفة بحصانتها الشديدة، ولذلك، فقد قضت تلك الخطة بمباغتة المدينة على حين غرة.

ففي نوفمبر 1144م خرج عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل متظاهراً بغزو ديار بكر الواقعة في أعالي دجلة، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ويبدو أنه كان يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين. وقد يكون سبب اختياره لهذا التوقيت بالذات هو علمه بأنه موعد مغادرته إلى قاعدة إمارته، إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات عيد الميلاد التي تُقام فيها سنوياً حسب 

العادة.

وفعلاً، فمع خروج عماد الدين زنكي على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة الرها متوجهاً إلى إنطاكية وهو في تمام الاطمئنان على مدينته، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرته، أرسل مباشرة إلى أمير حماه يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة، وما لبث هو نفسه حتى انحرف بقواته غرباً، فأطبق الجيشان (جيش حماه وجيش الموصل) على مدينة الرها في وقتٍ واحد، وذلك في 28 نوفمبر 1144م، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية على حامية المدينة.

وقد استمر الحصار 4 أسابيع كان الكونت جوسلين قد علم خلالها بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد أدراجه إليها، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على الضفة الغربية للفرات تدعى «تل باشر»، ومكث فيها منتظراً وصول المدد من إمارة إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس، إلا أن الجيوش الصليبية وصلت بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها عنوة.

وقد كان تحرير مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أنْ جاؤوا إلى المشرق الإسلامي.