التجريب الميتا سردي في رواية {في قرى الجن}

منصة 2023/04/26
...

 عبدالله الميّالي 

في عام 1945 أصدر القاص والروائي جعفر الخليلي (1904 – 1985) روايته (في قرى الجن) بجزء أول، ثم أصدر الطبعة الثانية في عام 1948 عن مطبعة الراعي في النجف، في جزأين، وتألفت من 190 صفحة، وهي النسخة التي اعتمدناها في هذا المقال. وسبق للخليلي أن نشر روايته هذه على شكل فصول في جريدة الهاتف التي كان يرأس تحريرها قبل أن يجمعها في كتاب مستقل. 

تستهل الرواية بقصة ترويها الجدة لحفيدها: «كان على الرغم من بلوغه السنة السابعة عشرة واجتيازه الدراسة المتوسطة لا ينام إلا وجدته عند رأسه تقص عليه مما تلفّق أو تحفظ أو تتذكر، وفي هذه الليلة كانت قصتها كما يلي: ...» ص13 ، وتأخذ هذه القصة جميع صفحات الرواية، لتنتهي عند الصفحة الأخيرة بقول الجدة: «وحانت هنا التفاتة من الجدة إلى حفيدها فالفته يغط في نوم عميق فأدركت أن قصتها قد ذهبت أدراج الرياح، وأن الولد لم يعِ منها – إذا وعى – إلا قليلاً، فمدت يدها إلى السراج فأخمدت أنفاسه وإلى اللحاف فسحبته وأسلمت هي الأخرى نفسها للنوم.» ص190. 

أما القصة فتدور حول خطف الجنيّة لطاهر الساعي ليلة عرسه، لتبدأ رحلة البحث عنه من قبل أهله، وفشل محاولة أمه بالاتصال بعالَم الجن، وتكفل صديقه المقرّب عبد الكريم الغرباوي بالاتصال بعالَم الجن ونجاحه في ذلك. إلا أن المفارقة تتمثل في كون الغرباوي نفسه يُعجب بعالَم الجن (المثالي) بعد رسائل متبادلة مع صديقه طاهر الساعي عن طريق عفريت من الجن يُدعى (مردان)، حتى وصل الأمر أن يطلب من طاهر الساعي مساعدته أن يكون هو الآخر أحد أفراد ذلك العالَم الذي يخلو من المتاعب، والجهل، والتخلف، والحروب. تتحقق أمنية الغرباوي وينتمي إلى عالَم الجن ليكون تحت التجربة بعد أن اشترطوا عليه أن يتطهر من دنس عالَم الأنس!  

من الواضح أن المؤلف كان يبحث عن المدينة الفاضلة من خلال الرواية، وقد وجدها في عالَم الجن بعد أن يأس من وجودها عند البشر في العالّم الأرضي. كما أن الرواية بعثت برسالة إصلاحية مهمة من خلال المقالات التي كتبها الغرباوي ونشرها في إحدى جرائد عالَم الجن، حيث جاء في هذه المقالات إدانة للحروب العبثية التي كان يقوم بها (الاستعمار)، ولا ننسى أن الرواية صدرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي اكتوى العالَم كله بجحيمها، وكذلك كشفت الرواية مدى الجهل والتخلف الذي يعانيه مجتمع المؤلف بأصنافه كافة، فكان مقاله الأول الذي حمل عنوان (من نحن) إدانة كبير للمجتمع (ينظر الرواية ص136 – 141)، وجاء مقاله الثاني الذي حمل عنوان (بلد الأحزان) ليصب جام غضبه على الممارسات والعادات والتقاليد المبالغ فيها عند حدوث حالة الوفاة لأي أحد من أفراد مجتمعه، سواء ما يبدر من الرجال أو النساء على حد سواء (ينظر الرواية ص155 – 160)، وجاء في المقال الثالث الذي حمل عنوان (فقدان المقاييس) إدانة أيضا لشرائح من المجتمع منهم: (متظاهرون، وجهاء، شعراء، كُتّاب، صحافيون، موظفون، علماء دين، فنانون، طلاب، ...الخ): «هذه أوضاع جرّ إليها فقدان المقاييس، وفقدان المقاييس إنما هو نتيجة الفوضى الاجتماعية وانعدام التوجيه، وفقدان الوعي  الموحد العام، وخمود الحس، وخمول الأفكار، فلو كانت هنالك مسؤولية لكن هنالك تعليم وتوجيه وتثقيف تبوخ معه ألوان الصور الكاذبة فتغيب عن العيون هذه الأمثلة المفضوحة ..» ص173. 

كتب الناقد د. عمر الطالب: «تعد هذه الرواية وثيقة احتجاج أدبية على نظام حكم فاسد، يعيشه مجتمع مطحون لمجموعة من الحكام البعيدين كل البعد عن أحلامه وأمانيه، وقد استعار المؤلف الجو من ألف ليلة وليلة ، ليتخلص من بطش الحكام وعقابهم، فوراء البناء القصصي (في قرى الجن) نقد ودعاية وعرض لمشاكل العصر الإنسانية من ناحية ولجميع مظاهر الحياة في العراق من ناحية أخرى مقارناً إياها بما هو شائع ومتبع في قرى الجن، وقد خلق المؤلف من هذى القرى مدينة فاضلة، وضع لها أسسها كما فعل أفلاطون في الجمهورية وتوماس مور في اليوتيوبيا».

كتب عنها الناقد د. صبري مسلم حمادي: «رواية (في قرى الجن) محاولة مبكرة للاستعانة بالتراث الشعبي، وتوظيف عناصره الغنية ورموزه الموحية، وهي أول محاولة على طريق استخدام التراث والاستفادة منه ومحاولة توظيفه.» 

فيما كتب عنها الباحث الأمريكي جون توماس هامل في رسالة الدكتوراه عن جعفر الخليلي: «استهوت (في قرى الجن) كاتب هذه السطور، ونالت إعجابه، فالرمز فيها ليس ذا بعد واحد وليس مجرد وسيلة للتهرب، ولا تمثيلاً للاشيء غير ملاذ للمؤلف. لقد نجح الخليلي في التوصل إلى بعد أدبي على وجه الدقة والضبط لأن بمستطاعه أن يستشف داخل الإنسان وجه البطل المرتقب».

أما الناقد حميد الحريزي، فكتب: «لا غرابة أن يبدع الخليلي هذه الرائعة وهو وريث ألف ليلة وليلة، المنتج الأدبي الخالد في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية والذاكرة العالمية أيضاً.. والرواية تمثل حُلم الخليلي ومن شاكله من أحرار ومتنوري ذلك الزمان للعيش الكريم ودولة المؤسسات الرصينة ووجود المؤسسات المحترمة من صحة وقضاء وتعليم وفنون والتوزيع العادل للثروة وإنصاف العاملين ونبذ المستغلين الكسالى».

وكتب الناقد مهدي شاكر العبيدي: «رواية (في قرى الجن) فيها من الخيال ما لا يُصدّق أو يتصوَّر وقوعه أحد، غير أنّ الراوي يلقي في روعك أنّ كلّ وقائعها حدث فعلاً، ويوهمك باستطراده السلس وأدائه القوي والنضّاح بالجدية والصدق أنّ فصولها جميعاً أبعد عن الاختلاق والافتعال والزعم.»

ويبدو تأثير قصص (ألف ليلة ولية) واضحاً على الرواية، فهي تستعين بالحكاية الشعبية التي تمزج الحقيقة بالخرافة، والعلاقة بين الجن والبشر والحيوان، وتحوّل الإنسان إلى حيوان، وعالم الأشرار، وعالم الأخيار. وهذه المواضيع هي عينها برزت بشكل واضح في قصص (ألف ليلة وليلة). يضاف إلى ذلك جنوح الرواية نحو الغرائبية والفنتازيا بما يمتلكه الكاتب من خيال خصب يُحسب له وهو يعيش وسط أدبي أدمن السرد التقليدي بشكل عام. 

الرواية تقترب كثيراً من منطقة الاشتغال الميتا سردي. وكما هو معروف فإن الميتا سردية هي إحدى تنويعات ما بعد الحداثة، أشار لها لأول مرة الناقد والروائي الأمريكي ويليام غاس في عام 1970 في مقالة نقدية، أي بعد ربع قرن تقريباً من إصدار رواية (في قرى الجن). وإذا كانت الميتا سردية تعتمد على «آليات سردية جديدة، منها عودة صوت المؤلف وحضوره، والانشغال بهمّ الكتابة الروائية وأسرارها، أو الانهماك برواية قصة أو حكاية داخل الرواية من خلال البحث عن مجموعة وثائق وبيانات خاصة بشخصية معيّنة، أو بحدث معيّن، أو من خلال الاعتماد على مخطوطة مدوّنة أو مجموعة مرويات شفاهية تكون متناً سردياً متكاملاً»، أو تكون الكتابة الميتا سردية «تنطوي على رغبة في التدوين والتوثيق للأحداث في الوقائع، وبشكل خاص الميل للكشف عن مخطوطات أو وثائق أو رسائل أو كتب عادة منشغلة بالكتابة السردية»، فإن (في قرى الجن) كانت أحد مصاديق اللعبة الميتا سردية. حيث تجلّى ذلك من خلال ثلاث وسائل: 

1ــ الحكاية التي ترويها الجدّة لحفيدها، والتي جرفت جميع صفحات الرواية، لتكون هذه الحكاية هي الرواية نفسها، أي أن المؤلف استعان بالجدّة لتكون هي الساردة لجميع أحداث وصور ومشاهد الرواية، واختفى المؤلف بشكل نهائي من مهمة السرد ظاهراً، ولكنه كان موجوداً من خلال أسلوب السرد الذي هو بطبيعة الحال عصي على الجدّة، لكونها لا تمتلك هذا المخزون الفكري والثقافي والأدبي والسياسي الذي ظهر بشكل واضح أثناء السرد. وهذه نقطة سلبية نسجلها على الرواية ومؤلفها.  

2ــ الرسائل المتبادلة بين عبد الكريم الغرباوي وهو يعيش في عالمه البشري، وبين صديقه طاهر الساعي في عالَم الجن عن طريق العفريت (مردان)، وكان عدد هذه الرسائل خمس عشرة رسالة، جرفت عشرات الصفحات من الرواية. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى تعريف الرسائل من قبل أحد الباحثين من باب الفائدة للقارئ: «الرسائل: هي سرد نثري مخصوص وآني، يخاطب فيه المرسل مرسلاً إليه محدداً، وبينهما ميثاق حاسم في تحديد هوية (المروي) النوعية، ويكشف السرد الرسائلي عن وصف وتحليل جوانب معينة ومحددة من تجربة الكاتب الذاتية، قدر تعلق الأمر بالظروف النفسية والاجتماعية والإنسانية لحظة كتابة الرسالة، لذا فهي لا تتمخض عن صورة شاملة تبرز حياة كاتبها كاملة وتفسرها، مقتصرة في ذلك على تمثيل حياته وتتبع أحاسيسه وعواطفه في المرحلة التي يمكن أن تسجلها الرسالة أو مجموعة الرسائل».

3ــ المقالات الصحفية التي كان يكتبها عبد الكريم الغرباوي عن عالمه البشري بعد أن انتقل إلى عالَم الجن، والتي كان يرسلها إلى جريدة تصدر في ذلك العالَم. وعدد المقالات في الرواية ثلاثة، وكل مقال يتألف من خمس صفحات، وهذا يعني أن المقالات جرفت من الرواية خمس عشرة صفحة. 

ومن المؤكد أن المؤلف كتب روايته (الميتا سردية) من دون قصد أو تصميم أو وعي بأساليب هذا النوع من الكتابة والذي عرفناه كأحد تنويعات أو أشكال ما بعد الحداثة، لكون المؤلف أصدر روايته قبل ربع قرن تقريباً من التنظير للميتا سردية في الكتابات النقدية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، ومع ذلك فإننا نُسجل لجعفر الخليلي أنه دخل منطقة التجريب السردي الذي سبق زمانه. وهذه نقطة تُسجل لجعفر الخليلي.

ومن الغريب أن النُقّاد والدارسين والباحثين (في العراق على تحديداً) قد تجاهلوا هذه الرواية في مبناها الميتا سردي، فلم يتم تناولها ضمن هذا الإطار فيما قرأته من دراسات وكتابات نقدية سواء عن الرواية نفسها أو عن الأسلوب الميتا سردي في الرواية العراقية، وهنا أشير إلى كتاب الناقد عباس عبد جاسم (ما وراء السرد ما وراء الرواية) الصادر في عام 2005، وكتاب الناقد د. فاضل ثامر (المبنى الميتا سردي في الرواية العربية) الصادر في عام 2013، وكتاب الناقد د. رسول محمد رسول (السرد المفتون بذاته) الصادر في عام 2015، فقد خلت هذه الكتب من الإشارة إلى رواية (في قرى الجن) عند التطبيق على الروايات الميتا سردية.  

رواية (في قرى الجن) تستحق بصمة إعجاب، إذا ما أخذنا بالنظر أنها كُتبت في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث السرد التقليدي هو السائد وقتئذ.