كيف صاغت أغاثا كريستي بريطانيا للعالم

ثقافة 2019/04/19
...

كريستين رو
ترجمة: بهاء سلمان
بالنسبة للكثيرين، تعد أغاثا كريستي انكليزية الجوهر بشكل مطلق، بيد أن الروائية صاحبة المبيعات الأكثر لمؤلفاتها عبر التاريخ، تذهب سمعتها الى ما بعد حدود بريطانيا.
وينظر لأعمالها كونها سهلة القراءة جدا، وهي المؤلف المفضل للناس المتعلّمين للغة الإنكليزية. فضلا عن ذلك، ومن خلال أرقام هائلة متحققة، كريستي هي أكثر مؤلف تمّت ترجمة أعماله على مستوى العالم، وبذلك فإنه اذا كان الكثيرون يتعلّمون الانكليزية من خلال رواياتها، فهم يتعلّمون عبرها أيضا امورا تخصّ الشعب الانكليزي. هذا الأمر واضح للعيان، فسلسلة كولنز لقراء اللغة الانكليزية الموجزة لكتب كريستي، تشرح ملاحظاتها الثقافية مثل هذه المواضيع، كالحياة الريفية الانكليزية ومقولة “لا دخان بدون نار”.
ويتفق مذيعا نشرة صوتية ثقافية عبر الانترنت، وهما “كاترين بروبك” و”كمبر دونوفان” مع هذه الطروحات. نشرتهما المسماة “كل ما يخص أغاثا”، التي تبث من لوس انجليس، لديها هدف طموح لمناقشة وتصنيف جميع روايات كريستي البالغة أكثر من الستين عملا. بالنسبة لكاترين، لا تمثل كريستي فقط المؤلف البالغ الأول الذي قرأت له بكثرة، لكنها مثلت أيضا التعرّف الرئيسي الأول للثقافة الانكليزية، وهي بالتأكيد تؤثر على أفكار المرء حيال كون الفرد انكليزيا. واذا تبقى كريستي ذات تأثير على أفكار القرّاء حول الشخصية الانكليزية، فماذا تحديدا يتعلّمون، وهل أيٌّ منها حقيقي؟
نسخة كريستي من الشخصية الانكليزية “موجود ليتم التلاعب به، عوضا عن كونه واقعيا بتجهّم،” كما يقول “ٍابين فاناكر”، محاضر اللغة الانكليزية بجامعة هول. وكما هو الحال مع قصص الجريمة التقليدية الأخرى، فخلفيات المشاهد والمميزات تتخذ بعض الرخصة الفنية، وحتى عناصر الكاريكاتير. في الواقع، بطبيعة الحال، لا تملك كل قرية بريطانية قسا عطوفا، وضابطا متفاخرا، ومحاميا غير مبال، وطبيبا وسيما، أو بالفعل عددا كبيرا من القتلة. وهناك أيضا غياب مثير للدهشة للحانات في قصصها.
لكن ليس كل نسخة كريستي عن الشخصية الانكليزية تعد خيالية. يقول دونوفان: إن”الانتقاص الذاتي بالنسبة لي هو ما يصلنا ويؤثر حقا،” وهو يرى شيئا انكليزيا مميزا عن اسلوب كريستي، إما من خلال سردها للأحداث أو شخصياتها، مستخدمة الطرافة الجافة، وروح الدعابة القاتلة غالبا. في قصة “مثلث في رودس” القصيرة، على سبيل المثال، تكتب عن امرأة انكليزية في الخارج: “بعكس غالبية الشعب الانكليزي، كانت قادرة على التحدّث الى الغرباء الموجودين بدلا من انقضاء أربعة أيام الى أسبوع قبل تحقيق التقدم الحذر الأول كما هو المعتاد في التقليد البريطاني”.
 
حب الحياة
هذا النوع من روح الدعابة كان يمثل جزءا كبيرا من شخصية الكاتبة، بحسب “جانيت مورغان”، مؤلفة السيرة الذاتية الرسمية لأغاثا كريستي. وتوضح جانيت أنّه بينما كان لدى كريستي معتقدات قوية حيال الخير والشر، “فقد كانت امرأة ظريفة للغاية... وكانت تستمتع بالحياة، وبالبشر وبطرق سلوكهم”. نرى هذه الحالة في قصة “خطر في البيت الأخير”، عندما يعبّر النقيب هيستنغز، مساعد المحقق الذي كان يمثل الرمز الصلب للشخصية الإنكليزية، عن شكوكه لـ “هيركيول بوارو”، المحقق البلجيكي الأنيق، الشخصية الأكثر شهرة في قصص كريستي؛ ففي وجهة نظر هيستنغز، الدافع المحتمل الذي يقدمه بوارو يعد ميلودراميا للغاية. يرد بوارو: “على ما يبدو، ربما نقول، انه تصرّف انكليزي. أنا اتفق مع ذلك، لكن حتى الانكليز لديهم مشاعر”.
وشأنه شأن الشخصيات الأجنبية الأخرى في أعمال كريستي، يضفي بوارو على الصورة النمطية للفرد الانكليزي حالة من الاسترخاء. وتعتمد الكاتبة على ميزات كثيرة محددة لشخصياتها ذات الجنسيات المختلفة، فالفرنسيون متهوريون، والاسكتلنديون مقتصدون، والاستراليون بسطاء. كريستي التي تسنّى لها السفر قبل وخلال اقترانها بزوجها عالم الآثار، تظهر فطنة حادّة بتصوّراتها لهم جميعا. الإنكليز لم يستثنوا من ذلك، ففي نص من قصّة “أوراق لعب على الطاولة”، تسخر بلطف من ضيق في أفق التفكير عند الانكليز: “كل رجل انكليزي معافى بدنيا شاهده تاق بشدة وحماس الى ضربه! ... سواء أكان السيّد “شيتانا” أرجنتينيا أم باراغوائيا أم يونانيا، أم من أية جنسية أخرى محتقرة بحق من قبل بريطاني ضيّق الأفق. لا أحد يعلم”.
 
استكشاف المجهول
وخاضت كريستي التجربة الأولية لحالة التلهّف الشديد الانكليزي حيال الغرباء. وتربط جانيت ذلك الأمر خلال رحلة قامت بها كريستي الى بغداد، فمن خلال شخصيتها المتسلّطة نوعا ما واعتزازها بنفسها، تمكّنت من التخلّص ممّن يفترض كونه يحميها وهربت الى الصحراء؛ كما تولّد لديها انطباع لأنموذج كتابة نوع معيّن من الشخصية الانكليزية التي تعتقد أن الأشياء الغريبة مثيرة للفزع وينبغي الاحتراس منها.
وتقول جانيت: إنّ الميزة الأخرى التي سخرت منها كريستي ضمن الشخصيات الانكليزية هي “التقليدية التي تمنع الناس، على سبيل المثال، من التفكير أن الخادمة ربما قد رأت شيئا، أو تكون هي بالفعل القاتلة”. وبينما كانت شخصيات كريستي بشكل غالب من الطبقة الوسطى، وغالبا مرفهة، الوعي بالطبقية كان يمثل ميزة لكل المجاميع الاجتماعية في عالمها. في قصة “الساعات”، تدل خادمة سريعة الانفعال الشرطة الى غرفة طعام بدلا من غرفة الرسم في ادراك مدقق لحالتهم الوسطية المتباينة، من كونهم ليسوا من الطبقة الرفيعة ولا عامة الناس.
وبشكل أكثر عمومية، يقول فاناكر: إن كريستي بحثت في الشخصية الانكليزية كثيرا، ففي قصة “إعلان عن جريمة”، بتلهفها الشديد لعصرنة القرية وتدفّق الغرباء، على سبيل المثال، نلاحظ التوترات حول ماهية نسخة “الشخصية الانكليزية” حقيقية للغاية، وهذا الحال يتواصل ليكوّن حالة مستغرقة في انكلترا.
لكن بالمطلق، كما تقول جانيت، “فإنّ بعضا من الأمور التي عرّفتها كريستي موجودة في كل مجتمع”. وربما تبدو الخلفيات والاعدادات والمحاكاة التهكميّة الساخرة دقيقة، غير أن المواضيع وميزات الشخصيات تبقى عالمية، ونظرة كريستي الى النواقص ليس فقط للشخصية الانكليزية، بل للطبيعة الانسانية جمعاء، تمثل مجرّد دليل واحد على شعبيتها الباقية في مناطق بعيدة جدا عن هذه الجزيرة الملكيّة، بريطانيا.
 
مجلة أوزي الأميركية