تسريد المحكي اليومي في نصوص {من ذاكرة الشجن}

منصة 2023/05/03
...

 د. عمار إبراهيم الياسري

إن المتابع لنصوص (من ذاكرة الشجن) للدكتور نصير جابر يقع في حيرة نصوصيّة فريدة، فالمجموعة تنأى بنفسها عن بنية تشكيل القصة القصيرة المعتادة والحكاية الشعبيّة التي تنقلها كتب التراث والشرائح السردية للمذكرات الذاتيّة على الرغم من أنها تحتكم على هذه الأشكال المعتادة لكنها نسجت قماشتها المتفرّدة بعيدا عن هذه الأشكال السردية القارّة، فنصوص المجموعة اشتغلت على استنطاق السرديات الصغرى ونصوص الهامش والمنبوذ والقابع على حواف التحقير مبنى ومعنى عبر تقانات متنوعة لها بنيتها الديناميّة منها:

1. وجهة النظر السرديّة

منذ التنظيرات الأولى التي جاءت بها المدرسة الشكلانيّة شهدت المباني السرديَة تحوّلات في تموقعات السارد، وهي اشتغالة تنماز بها السرديّات الحديثة، بمعنى أن يكون تبئير الشخصيّة إما صفريًّا، أو داخليًّا، أو خارجيًّا، أو أن يكون أكبر من الشخصيّة أو مساوٍ لها أو أقلّ منها، ومن قراءة تحليليّة للمجموعة نلحظ أن تموقعات السارد فيها اشتغلت على ثلاثة أنساق:

أ‌- السارد العليم العارف بكل شيء من خارج بنية الحدث: لقد وظّف القاصّ هذه التقانة في بعض نصوص المجموعة من أجل الهيمنة السرديّة التي تتيح له التعليق الناقد على الواقع المعيش، وهذا ما تجسّد في نصوصه السياسيّة والاجتماعيّة، ففي نصّه (عشق) الذي يسرد فيه حكاية الفتاة المريضة نلحظ أن السارد كان عارفًا بما تضمر شخصيّات (الجدّة، الفتاة، الطبيب)، فالفتاة المريضة التي التصقت بقبور الأولياء من أجل شفائها بعد أن عجز الأطبّاء عن ذلك، والحرب الطاحنة التي تخطف حبيب الفتاة في  معركة (نهر جاسم)، و(مقداد مراد) المذيع الذي ارتبط بقراءة أخبار الحروب ومنها حرب (نهر جاسم) ونهاية الحرب العراقيّة الإيرانيّة، والمسبحة التي كانت شاهدًا على الخسارات العظيمة للذات الإنسانيّة، والنهاية التهكّمية التي جاءت على لسان الفتاة المريضة حينما أجابت الطبيب (دكتور الحرب ما تنتهي بس تبدي وما تنتهي أبد) تُعد فواعل سرديّة أمسكت بها الذات الساردة بعد أن عرفت كل تمفصلاتها وكأنها في طائرة ترقب الأحداث من علوٍّ شاهق.

ب‌- السارد المساوي للشخصيّة: استعمل القاصّ هذه التقانة في العديد من نصوص المجموعة ومنها نصّه (فلاسفة)، إذ نلحظ ذلك حينما تسأل العجوز السارد في السيّارة بعد أن رأته يحمل مجموعة من الكتب:

- هذا الأحيول منهو؟ 

- سارتر. 

- وأبو شعفة؟ 

- ماركس.

هزت يدها، شنهو يشتغلون؟  

- فلاسفة.

- شنهو من فلفسة يقودها الأيحول وأبو شعفة؟

ت‌- السارد الأقلّ من الشخصيّة: وقد تجسّدت هذه التقانة في نصوص عديدة منها نصّ (هي) الذي يصف فيه السارد مقبرة وادي السلام، إذ نلحظ بأنّ القاصّ قد عاد به الزمن ليلبس قناع الطفولة وهو يرقب الداخلين والخارجين إلى المقبرة، وقد لفتت انتباهه امرأة لها معالم مميّزة تتردّد على قبر ما بصورة متكرّرة، وفي أحد الأيّام لمحها تناجي ربّها، بل تعاتبه، إذ تقول (تدري شلون ربّيته، تدري شكد نذور نذرت يالله صار، أكعد من الغبشة أترس ماي وأعجن وأخبز، آني ما أعاتب.. بس أعاتبك جا وين رحمتك)، نلحظ السارد الأقلّ من الشخصيّة المتمثّل بالصبيّ ينقل عنها ما سمع وما رأى وما ظهر من دون القدرة على الحفر في جوّانياتها.

2. توظيف الوثيقة السرديّة:

تعدّدت أشكال التداول الشعبيّ الذي شيّد البنية السرديّة في نصوص (من ذاكرة الشجن)، فالوثيقة الشعبيَّة تعد ترهينًا لنسق اجتماعيّ يشتغل المبنى السرديّ على تشييد معماره عبر فعل التنصيص الذي يُعد بدوره ممارسة فنيّة ناهضة، وقد تعدّدت أشكال التداول الشعبيّ في المجموعة منها:

أ‌- تسريد المثل الشعبي: وقد تجلّت هذه التقانة في نصوص متنوّعة مثل (مداخن وكلل) و(الغريبة) و(عنصل) و(الشليل)، ففي نصّه (الغريبة) نلحظ أن القاصّ جعل من المثل (جنة غرب) البنية العميقة التي ترتبط بها البنى العديدة في النصّ بوصفه المعادل الموضوعي للسيّدة (سوزان) ابنة يوسف سلمان الملقّب بـ (فهد) والتي عاشت غريبة عن بلدها العراق بعد إعدام والدها، فيما وظّف المثل (شلل وأخذ) كناية عن الكرم في نصّه (الشليل) ومن مصاديقها الأهزوجة التي قيلت بعد وفاة الشيخ عبد الواحد آل سكر:(لون يرضة الوكت وياي بالتبديل/ جنت أفرش شليله شكثر حده يشيل/ ولا ياخذ الحيد اليرد عج الخيل).

والحال ذاته ورد في موارد أخرى مثل (عنصله خبيث) و(ماي خندك لا يطهر ولا ينجس).

ب‌- تسريد القصيدة الشعبيّة: في هذه التقانة عمد القاصّ إلى استنطاق الحكاية المنسيّة المتوافقة مع القصيدة الشعبية، فحينما قارب بين مفردة (الأنين) الفصيحة مع مفردة (الونين) الشعبيّة وظّف قصيدة للشاعر (عريان السيّد خلف) التي يقول فيها: (رافكتني الونّه والحسرات من بطن النكلني .. هذا عمري مكالب وي الضيم ما مر الضحج مرة اعلى سني)، وفي نصّ آخر وسمه بالمفردة الشعبيّة (وين) عبر مقاربة لغويّة ما بين اسم الاستفهام (أين) والمفردة الدارجة (وين) لجأ إلى تضمين نصوص شعريّة للشاعر (كامل العامري) و(محمّد الغريب) في قصيدته (وين جنتي): (وين جنتي وليش متأخرة علي كل هالسنين.. وليش ما طيفج أجه وفزز صفنتي).

ت‌- تسريد الأغنية الشعبية: في مبناه السرديّ عمد القاصّ إلى جعل الأغنية الشعبيّة ذات المدلولات الحكائيّة معادلًا للحكاية التي يسردها مثل موّال (سلمان المنكوب): (أصد للباب أكول أبني وصلي/ حنين وجاي بيمنه وصل لي/ ما أدري الدهر بنيابه وصلي/ كرصني وطشّر أحبابي من أديه).    

والحال ذاته مع نصّه (البنفسج) المتعالق مع أغنية (ياس خضر)، فيما ضمّن في نصوص أخرى أغانٍ لـ (داخل حسن) و(رياض أحمد) وغيرهما. 

1 -  توظيف المحكيّ اليومي (فعل الحدث):

في هذه الاشتغالة نلحظ بأن القاصّ قد عمد إلى خلخلة المتن الحكائيّ ثم أعاد صياغته على وفق معماريّة بنائيّة حداثيّة مبرزًا نظريّة الحوافز التي نظر لها الشكلانيّ الروسيّ (بوريس توماشفسكي)، إذ نجد في بنية النصوص الحوافز المشتركة التي تقوم عليها الحكاية ثم نلحظ وجود الحوافز الحرّة التي نثري النصّ السردي عبر سرود ذاتيّة تزيد من التشويق والدهشة على الرغم من أنّ جواز الاستغناء عنها لا يخلّ بالمتن الحكائيّ، ومن النصوص البارزة (مداخن وكلل) و(وحام) و(الديرم) و(جل البوه)، ففي نصّه (مداخن وكلل) نلحظ وجود نصٍّ محايثٍ يتحدّث عن شريعة (حمورابي) يساند النصّ الأصليّ، والحال ذاته في نصّ (وحام) إذ نلحظ وجود سرود فرعيّة مثل مجيء الخال حاملًا جثّة ابن أخته.

2 - توظيف الشخصيّة الهامشيّة:    

تُعد شخصيّات الهامش من الهويّات الفرعيّة، أو الأقليّات أو الشخصيّات المبتذلة أو القابعة على حوافّ التحقير وهي من متبنّيات سرديّات ما بعد الحداثة، وقد حفلت النصوص بمجموعة من الهوامش منها:

أ‌-  الغجر: إذ نلحظ في قصة (الغجر) أن الصبيّ الذي أمسك بتلابيب السرد في عيادة الطبيب بعد أن أجلسه عمّه قرب الشبّاك بانتظار دوره في المراجعة قد تخلّى عن قيادة الأحداث للغجريّة الجميلة التي تعاني هي الأخرى من مرض ما، بل حتى الخاتمة جاءت على لسانها حينما قالت (الحلو محسود حتى بمرضته.. مو يولد).

ب‌-  أم غايب: من الشخصيّات المهمّشة التي حفلت بها المجموعة شخصيّة (أم غايب)، فهي العاقر التي أرهقت الأولياء بتضرّعاتها من أجل إنجاب طفل تتّخذه حصنًا واقيًا لها وقتذاك، بل تطلّب الأمر منها القيام بالاستجداء عبر طَرق أبواب الناس من أجل تحقيق مآلاتها الدنيويّة المتمثّلة بالإنجاب، وقد جسّد القاصّ تحقّق رغبتها بمقولتها عند ولادته (ولك أنه جديتك جدوة) وبمقولة الفقدان (كون الولد ينباك بوكه.. جنت ابوكه وابوك اثنين فوكه).

ت‌- الأصوات الريفيّة الهامشيّة: في قصّة (غربة) يستعرض السارد مرض الحنين الذي يصيبه، حتى لو غادر ضفاف نهر (الجيجان) في المهناوية نحو النجف أو غيرها، ومع هذه العلاقة المكانيّة تسيّدت في الذات الأصوات الريفيّة مثل (جعفوري محمد) و(جويسم كاظم) و(حمزية ياسين) المرتبطة بالحزن الأزليّ للريف العراقيّ بدلًا من (موزارت) و(بتهوفن) و(باخ).

3 - النهايات المفارقة:

اشتغلت المجموعة على استنهاض المفارقة السرديّة التي وردت في الطروحات الأرسطيّة التي جعلت منها الحدّ الفاصل ما بين البناء الدراميّ المحكم والبناء البسيط، وفي حين ذهبت مدرسة (كونستاس) الألمانيّة منتصف القرن المنصرم نحو مفهوم كسر أفق التوقّع، بل جعلته من متبنيات النصّ الأدبيّ، فالقصّة القصيرة والفيلم القصير والنصوص المكثّفة واللمح والومض يجب أن يؤسس مسردها الدراميّ على كسر أفق التوقّع، وهذا ما انمازت به بعض نصوص المجموعة مثل (عشق) و(حصاد العمر) و(اختلاج)، ففي نصّه (اختلاج) ينبئنا الاستهلال السرديّ عن رفض السارد لموروثات الحركات الجسديّة التي تستشرف الشرور والخسارات بوصفها حركات منسوبة إلى مسبّبات داخليّة وخارجيّة، ولكن السارد عاد مذهولًا بعد أن تحقّقت نبوءة صديقه الذي فقد والده في الحروب الدامية.

إنَّ التقانات التي وظّفها القاصّ نصير جابر في مشغله الأدبيّ جعلت من مجموعة (من ذاكرة الشجن) مجموعة مختلفة لا تشبه إلا ذاتها عبر بنية تشكيليّة واشجت بين أجناس أدبيّة وفنيّة مثل المحكي اليومي والقصيدة والأهزوجة والأغنية واللغة القصصيّة ووحدة الحدث وشخصيّات الهامش لتخرج لنا بقماشتها الفريدة، فأجاد وأبدع.