التكامل والتصادم نقداً وإبداعاً

منصة 2023/05/04
...

  حيدر علي كريم الأسدي 

تشكل النظرية الأدبية بمجملها رؤى جمالية تفترض عبر الأجيال والتمرحلات التاريخية تحولات عديدة، سواء على مستوى التركيز على المضامين أو حتى على مستوى التغيرات في شكل النص الإبداعي، سواء مع المراحل الكلاسيكية أو حتى التحولات فيما بعد على المستوى التعبيري والرومانسي وصولا إلى (السريالية واللا معقول، والعبث وغيرها).

هذه التحولات تأتي أما نتائج احتياجات تعبيرية تلتصق بالمعنى (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي) التي يتماس مع (روح العصر ومتغيراته)، ولهذا تنبع الحاجة للتنظير والنقد الصرف لمثل هذه التحولات والأشكال والبحث عن أنساقها وتعالقاتها على المستوى الشخصي لمنتج الخطاب أو على مستوى منظومة العلاقات المجتمعيَّة والسيكولوجيَّة وتأثيراتها على هذا النص أو ذاك. 

بعد هذا المهاد أريد أن أطرح تساؤلات عدة أو افتراضات من وحي المنظومة الأدبيَّة، هل الناقد أديب فاشل؟، هل النقد ضرورة جمالية وفكرية للأديب والنص الإبداعي؟، هل النقد حالة من حالات الكمال الأدبي في التنظيرات الأدبيَّة وضرب من ضروب الترف الفكري؟، هل يخشى المبدع قلم الناقد؟، هل النقد المعاصر نقد صحفي واخوانيات وعلاقات شخصية؟، أم هو أداة انتقام وتشريح لمنتج النص وليس للنص؟، من مر بمخاض التحولات النقدية منذ القرن العشرين وحتى اللحظة سيدرك أهمية تلك التساؤلات، لتفكيك الجدلية القائمة بين النقاد ومنتج النص، أولا أن النقد مر بتحولات كبرى على مستوى التعاطي مع النص ابتداء من المناهج الكلاسيكية (النفسي، الاجتماعي، الانطباعي) وصولاً إلى المناهج النسقية (البنيوية، السيمائية، الظاهراتية، الجمالي، الثقافي..) وحتى المناهج التي تعنى بالتلقي ونظريات التلقي، في خضم هذه التحولات كانت علاقة الناقد بالمبدع تختلف من منهج لآخر، بخاصة أن كنا نتحدث عن الناقد (صاحب المنهج والإجراء النقدي) ولا نتحدث عن نقاد (الصحافة) الذين يكتبون نقداً لا علاقة له بالنقد المتخصص، يكتبون نقدا لملء الصفحات الثقافيّة في الصحافة اليوميّة وهم كثر وأغلب الظن هم من جعلوا الخلط حاصلاً بين النقاد والمبدعين، إذن النقد تارة يكترث بمتعلقات إنتاج النص وأثرها على الأديب (المبدع للنص) وتارة لا يكترث للأديب فيكون محور علاقته بالتحليل والتفسير متركزة على (النص/ بوصفه الوثيقة التي يتعاطى معها الناقد) على وفق هذه التحولات يتحول منظور العلاقة بين الناقد والمبدع، تارة تقترب وأخرى تبتعد، ولكني لست مع مقولة أنَّ الناقد شاعر أو سارد حاول (وفشل).

فالناقد بالتأكيد يقدم عملا جماليا تكامليا بوصفه ينتج نصاً جديداً يختلف عن النص (الأول/ نص المبدع) لا سيما إن سلمنا جدلاً أن النقد يختلف عن (الانتقاد الصحفي) فالنقد لم يعد كما يتصوره العديد مجرد (بيان السلبيات) أو (وضع النص على مشرط نقدي حاد) لا بالعكس النقد اليوم يفكك الجماليات والأنساق الفكرية للنص الإبداعي ويحيل تلك المفردات إلى مرجعياتها ويقدم صورة أدبيَّة وجماليَّة أخرى للمتلقي من خلال تفكيك هذه المرمزات والشفرات التي يضعها المبدع في تأثيث نصوصه، شريطة أن لا يكون هذا النقد مبنياً على (العلاقات الشخصية). فمثلا يكره الناقد (س) المبدع (ص) فيكيل له التهم ويتهجم على نصوصه وعلى شخصه بحجة (الإجراء النقدي). 

النقد يجب أن يكون موضوعياً ومبنياً على إجراءات علمية صريحة وواضحة وأدوات متمكنة بالتحليل والتفسير والاحالة، لكن النقد اليوم للأسف نراه يمثل حالة من حالات الرثاثة في المنظومة الأدبيَّة، فكما نشاهد العديد من المتزلفين في الآداب والفنون. 

هناك أيضا من دخلوا هذا المضمار على حين غفلة، فأصبحوا (خلفات) في كتابة النقد (الجاهز) يلبسون النصوص نقدهم هذا كيفما شاؤوا واجتهدوا من دون مراعاة لأي أحكام جماليَّة او احترام للمتلقي وذوقه، فنشاهد العديد من الكتاب يكتبون النقد المجاني على نصوص أقل ما يقال عنها بأنّها (تافهة) لبعض شاعرات وأديبات مواقع التواصل الاجتماعي، فهنا يتحول النقد إلى أكبر حفلة للمجاملات الرثة السطحية، فتظن بعضهن (بأنّها أصبحت شاعرة العرب الكبرى)، وبهذا يتحول الناقد إلى سُلّم لصعود العديد من أشباه المبدعين إلى المنصات المختلفة. 

النقد يجب أن يكون موضوعياً ولا يجامل على حساب الفكر والجمال والإبداع، في الوقت ذاته وعن تجربة أرى العديد من المبدعين في شتى المجالات (مسرح، سينما، سرد، شعر) يتحسس من الناقد، ويعتقد أن الناقد عدوه اللدود، فترى مثل هؤلاء يحرصون على ألا تقع منتجاتهم الإبداعيَّة بيد هذا الناقد أو ذاك خشية من صراحته في النقد، بل شاهدنا العديد من المبدعين تكون لهم ردّات فعل غير متزنة أزاء ما يكتب عن نصوصهم من نقد، فيهاجمون ذلك الناقد تارة ويسخرون منه تارة أخرى ويقللون من عطائه وطريقة تحليله لنصوصهم أحيانا عدة، إذن العلاقة بين الناقد والاديب أحيانا تقترب وتكون علاقة ودية وربما تؤثر هذه العلاقة على التعاطي مع النص الإبداعي، وأحيانا تكون علاقة تباعد وتشنج بين الطرفين، حينما لا يتقبل المبدع نقد نتاجه أو تأشير مكامن الخلل بنصوصه، شخصياً خسرت العديد من الأصدقاء المبدعين بسبب صراحتي بما أكتب من نقد، بل وبعض المبدعين تهجموا علينا وكأننا بحرب شخصية معهم وليس حوارا فكريا ثقافيا قائما على إبداء الرأي والرأي 

الآخر. 

وأخيراً نحن نتحاور في مفصل ثقافي فكري جمالي ولا يمكن أن يتحول هذا الجدل الفلسفي والفكري إلى صراع شخصي على أرض الواقع، فالنقد صورة من صور التكامل والاضافة الجمالية وإنتاج النص الجديد الذي يقدم للمتلقي ما عجز عن قوله المبدع، ولكن على النقد والنقاد أن يخرجوا من عباءة المجاملات والاخوانيات وأن تكون رؤاهم مبنية على أسس ومرجعيات ذوقية رفيعة لا تتصل بالمعنى العاطفي والشعور ومدى قربهم من منتج النص، فعلى الناقد تقع مسؤولية كبرى لتشخيص وتأشير النتاجات الجيدة من الضعيفة، وثمة الآلاف من المتلقين يثقون برأي النقاد ويعتمدونها في تقييم النتاجات، وذلك لأنَّ الناقد (قارئ منتج) ويستطيع بصورة فاحصة أن يدرك أهمية النتاج الإبداعي من عدمه.