هيجو أنقذ {سيدة باريس}.. و نوتردام تُحيي ذكراهُ

ثقافة 2019/04/20
...

عبدالزهرة زكي
لا أحسب أن أحداً ممن تابعوا بألم حريق كاتدرائية نوتردام، الأسبوع الماضي، لم يكن يرى ما يحصل إلا وقد استعاد في أثناء ذلك رواية فيكتور هيجو (أحدب نوتردام).
شخصياً استعدت ذكرى قراءتي هذا العمل الأدبي الذي حصلت عليه مباشرة بعد قراءتي راوية هيجو الأخرى (البؤساء). كنت حينها تلميذاً مراهقاً في الدراسة المتوسطة، وكان للروايتين أثران مختلفان في اهتمامات ذلك التلميذ في القراءة والحياة. سأركز في هذا المقال على ذكرى (أحدب نوتردام)، فيما كان أثر رواية البؤساء منسجماً مع تربية اجتماعية وثقافية نشأت عليها، لقد عززت الرواية قيمة التعاطف والمشاعر الإنسانية إزاء ناس العالم السفلي، ناس المدينة المسحوقين بفقرهم وبقسوة الحياة والمجتمع ضدهم.
قبل استعادتي الأسبوع الماضي لذكرى قراءة (أحدب نوتردام) بعد عقود على زمن المراهقة كنت قبل سنوات، في عام 2006، قد استعدت أيضاً ذكراي مع هذه الرواية، وكان هذا قد حصل في أثناء أول زيارة لي إلى باريس، وقد استغرقت أسبوعاً بدعوة من اليونسكو لحضور مؤتمر عن (دعم الإعلام العراقي). كان أسبوعا مكتظاً بالعمل والنقاشات ظفرت خلاله بنهار سئمت فيه تكرار النقاش وربما لا جدواه فقررت زيارة كاتدرائية نوتردام، في الدائرة الرابعة بباريس، وكان هذا بتأثير من تلك القراءة 
ووفاءً لها.
عند مغادرتي الفندق، بعد الإفطار، وكان يوم سبت، صادفت الصديق الكاتب الراحل رياض قاسم، وهو مشارك أيضاً في المؤتمر، وقد كان يهمّ بتجوال يبدو غير محدّد بهدف في باريس، فقد كان هو الآخر سئماً، وهذا متوقَّع من رياض، فاستحسن فكرة زيارة الكاتدرائية، فكان معي في ذلك النهار.
كاتدرائية نوتردام هي بعضٌ أساس من التاريخ الثقافي الفرنسي، وهو تاريخ صنعته الفلسفة والأدب والسياسة والفنون، ومن هذه الفنون العمارة التي تشكل الكاتدرائية شاخصاً أساسياً في باريس بين شواخص كثيرة، وهي مما أنتجته قرون العصر الوسيط من عمارة، إذ افتتحت عام 1266 بعد مئة عام من العمل الذي ظل مستمرا فيها منذ عام 1166. بهذا فهي تقدّم سمات خلاقة للعمارة القوطية، وقد يفضّل الفرنسيون التأكيد على الخصوصية الفرنسية في هذه العمارة بالقول: إنها (القوطية الفرنسية) في المقابل من العمارة القوطية الرومانية. وواقعاً فإن كاتدرائية نوتردام غنية بالتفاصيل التي تؤكد الخصوصية القوطية الفرنسية؛ يشير قاموس أوكسفورد الإنكليزي إلى جانب من هذه الخصوصية بتأكيده على الدعامات الطائرة والواجهات النحتية المبتكرة، فيما يلفت فرنسيون النظر إلى ما يؤكد أصالة جماليات النوافذ الزجاجية الهائلة وطبيعتها الزهرية الآسرة. هذه بعض سمات الأناقة الفرنسية التي تعبّر عن نفسها، هذه المرة، معمارياً.
حين وصلنا، أنا ورياض، قريباً من الكاتدرائية على ضفة السين كانت الشمس تلقي بأشّعة تلطّف برد يوم فائت، وكانت أفواج من فرنسيين وسيّاح من بلدان مختلفة تكتظّ بها ساحة البابا يوحنا بولص الثاني التي تطلّ عليها
الكاتدرائية. لم يكن صعباً التعرّف على تدخلات متأخرة في الطبيعة الأصلية لعمارة المبنى، كان هذا واضحاً في التجريدات اللونية على الزجاج، مثلاً. لقد تعرضت الكاتدرائية إلى أكثر من ظرف، بمراحل مختلفة من عمرها، ما أثّر في بعض سطوحها وواجهتها، وكان إدخال روح حديثة على الرسوم الزجاجية واحداً من مقترحات حل معضلات ظلت تواجه بين حين وآخر هذه الكاتدرائية..
لم يكن حريق الأسبوع الماضي المحنة الأولى التي واجهتها نوتردام. فقد واجهت مشكلات في القرن السادس عشر، ثم جرى تغيير الزجاج الملون بآخر شفاف بداعي السعي من أجل نفوذ المزيد من الضوء، لكن المشكلات الأخطر كانت في غضون الثورة الفرنسية، وما لحق بها من اعتداءات وتخريب.
هذه التغييرات، من اعتداءات وسوء بعض إجراءات الإصلاح، كانت في الجوهر من عمل وتفكير فيكتور هيجو في روايته (أحدب نوتردام)، وأحدب نوتردام هي التسمية الإنكليزية التي حملتها الرواية بطبعتها الإنكليزية الأولى وظلت سارية في الثقافة الإنكليزية.
 التسمية الأصل هي (سيدة باريس)، والسيدة هنا هي الكاتدرائية، بما يوضح مركزيتها (الكاتدرائية) في الرواية، وفي تفكير الكاتب، بخلاف ما أرادته التسمية الإنكليزية. كان هيجو ينظر إلى (التحديث)، بحقبته الرومانسية، كما لو كان اعتداء على الطابع القوطي الأصيل في العمارة، وكان الكاتب من أجل هذا يقيم تقابلاً ما بين (الطباعة)، كمنجز تقني حديث طامح وعاصف في تلك الأثناء، وما بين فن العمارة كثقافة متجسّدة ومهدَّدة. كان هيجو يقول: “في هذا العصر ثمة امتياز للأفكار المبثوثة في الحجر مماثل تماماً لحريتنا الحالية للصحافة. إنها حرية العمارة”.  لقد كان يفضّل إطلاق صفة (الآفة الألمانية) على الطباعة.
لكن ليس من عمارة لا يطولها التجديد والصيانة، العمارة ليست كالكتابة. وواقعاً لم يعارض الكاتب الفرنسي نزعات التحديث، لكنه كان يعترض على ما يسيء لهوية العمارة القوطية الفرنسية، بعدما اعترض على سوء بعض محاولات التغيير والتجديد في 
نوتردام. 
وكان، قبل كتابة الرواية ونشرها، قد نشر ورقة بعنوان (الحرب على المدمّرين). لقد وصف بعض جوانب التغيير و(الإصلاح) التي تعرض لها المبنى بمراحل مختلفة على أنها إجراءات هي أسوأ من التخريب الذي يراد إصلاحه. كان هيجو يريد للجانب (الصياني) الملتزم بالأصول أن لا يجري التساهل فيه لصالح أهداف (التغيير). 
وكانت هذه مسؤولية ثقافية وإنسانية لم يتردد فيها هيجو.
بعد صدور رواية (أحدب نوتردام)، أو بالأحرى (سيدة باريس)، وفيما حظيت باهتمام كبير، فإن الكاتدرائية شهدت طوراً آخر مختلفاً من الإصلاح والإعمار، وكان هذا بموجب أمر من الملك لويس فيليب، حيث جرى اختيار اثنين من المهندسين للجنة الإعمار ليرأسا فريقاً من المعماريين والنحاتين والمشتغلين بالزجاج وغيرهم من الحرفيين الذين أعادوا تشكيل اللوحات الأصلية أو العمل عليها وترميم الزخارف الأصلية، أو إضافة عناصر جديدة حين كانوا يفتقدون إلى النموذج مراعين التقيد بأصالة الأسلوب.
هكذا كان النجاح الكبير للرواية قد ساعد في تكريس قيمة ثقافية واعتبارية مضافة للقيمة الفنية الحقة للكاتدرائية العريقة. هذا ما يستطيع فعله الأدب الخلاق. محلياً تمكننا الإشارة إلى ما فعله الشعر حين جعل السياب، مثلاً، من (جيكور)، القرية الريفية الصغيرة المنسية، و(بويب) الساقية الصغيرة فيها بعضاً من أساطير عالمنا المعاصر، وهو ما كان قد فعله المتنبي بحق الإمارة الحمدانية، وكانت واحدة من كثير من إمارات عصرها، وما بعده، التي نسيها الزمان فيما بقيت الحمدانية وأميرها في العمق من ذاكرة التاريخ، إنما من خلال الشعر وحده، من خلال قصائد ابي الطيب.
يستطيع الأدب أن يسبغ شيئاً من روحه الخالدة على الأمكنة حين تكون موضوعاً لانشغاله، فيما يستطيع الأدباء أن يعلو من قدر مكان يستحق العلو وذلك كلما كان المكان مهدداً وكلما كان محوراً لانشغال الأدباء والمثقفين 
ولعلوِّ صوتهم.