محمد شهيد
ما أحوجنا اليوم، حيث الِلهاث خلف المصلحة والفردانية والقسوة، إلى لاهوت الرحمة، أي: علم الرحمة الإلهية وكيفية الانطلاق منه في الحياة. لا بد من التركيز على هذا النحو من البحث والتوجه والمسار اللطفي في ما يخص علاقة الإنسان بالله وتاليا بِبني جِلدتِه.
ذلك المسار اللاهوتي الذي يستمطر القلب بدل أن يستنهض القوة.
وذلك بُغية تعديل شيء من كفة حياتنا المائلة نحو أصالة عدم تَقبّل الآخر، وهو أمر إذا لم يكن موجودًا في الدين الإسلامي، لوجب أن نخترعهُ ونبتكر نصوصه، كيف لا وأن مفردة الرحمة قد وردت في القرآن الكريم 268 مرة, هذا فضلًا عن الكلمات والمعطيات التي تدور في إطار الرحمة وفضائها، مثل: العفو والمغفرة وخفض الجناح واللين ومقابلة الإساءة بالإحسان والإيثار، وصولًا إلى الحث على التسامح حتى مع قاتل الأب، وهذا مثلٌ إسلامي رفيع في إشاعة ثقافة اللا عُنف حتى ولو حمل مبرراته الموضوعية معه، هذا إضافة لسيرة النبي الرحيمة والتي أصبحت مضرب مثل.
وأنا هنا أتحدث عن الرحمة وهو مفهوم بطبعهِ لا يحسب للمداقة العقلية والموازنة حسابًا، فتراهُ دائم الانحياز للآخر وليس الذات، بخلاف مفهوم العدالة، الذي لا تجده في مكان إلا وأدوات الحساب والقياس والموزاين معه.
ولذا تجد بعض المفكرين عندما يصفون لاهوت الرحمة وما دار مدارهُ، يقولون: إنه لاهوت لا يستريح كثيرًا للعقلنة والبرهنة والمحاججة، وإنما قِوامهُ على مبدأ استنهاض كوامن الرحمة واللطف والعطف وهو يتحرك في مسارات الحياة.
طبعًا أنا لا أروم هنا الاصطفاف في طابور أهل النزعة التمجيدية للإسلام، ولكن واقع النصوص في هذا الإطار يأخذ بتلابيب الباحث، وليس مجرد توق أو عقيدة.
والإسلام ركَّز على ممارسة الرحمة ومجانبة الانتقام، ووعد بجزيل العطاء الغيبي والحضوري، مقابل السالك في الناس مفهومًا وممارسة بِاسم اللين واللاّ حدية، لأنه يعلم أن لغة الصاع بالصاع لا تأتي بطائل البتة، ويعلم أيضًا أن أسلوب "سنجهل فوق جهل الجاهلينا" هو نهج مُدمِر بطبيعته، بل هو الذي يقول على لسان أحد رجالاته: إن قُلت عشرًا لم أقل واحدة.
كما ورد عن علي بن الحسين.
ستقول لي: وما ستفعل مع آيات السيف والجهاد والقصاص والحدود ونحو ذلك من أدوات العنف ومفاهيمه؟ وأُجيب: إن الجهاد، بشكلهِ الابتدائي (عصر الرسول) غير ثابت بشكل قطعي، كما أكَّد بعض الباحثين المُعتبرين علميًا كالمفكر حيدر حب الله وغيره، ممن توصلوا إلى نتائج تنفي بشكل واضح مسألة التحشيد للابتداء بالجهاد على تفصيل عندهم، وطبعًا الجهاد الدفاعي أمر لا حاجب على عينه، وذلك هو الموجود في عصر الرسول الكريم، وكذا قد جرت نقاشات عدة حول ما يسمى بعصر الفتوحات، من حيثُ دلالتها على الجهاد الابتدائي وهي قصة طويلة، أما مسألة الحدود، فلو تخطينا دلالة مفهوم الشروط الكثيرة التي وضعها الإسلام حتى تقام الحدود، الأمر الذي يشي بمعنى الرحمة والعفو، فإنا نؤكد أنه لا توجد حضارة أو تجمع بشري في الحياة بلا مجموعة قوانين رادعة من شأنها أن ترجع بالنفع والأمن على الجميع، وهذا ملف سودت من أجلهِ آلاف الصفحات بالدرس والجدل إثباتًا ونفيًا.
أقول يكفينا لاهوت صراطي ولاهوت دعوة إلى الله بِاسم العنف وإرعاب النفوس من عقاب الإله، ويكفينا لاهوت سياسي بالمعنى الذي ذكره كارل شميت في كتابه (اللاهوت السياسي) يكفينا كل هذه المسالك الوعرة، لأنها مسالك أثبتت فشلها وقرعنا صوت سقوطها المدوي.
وهناك حقيقة دالة جدًا في مقامنا هذا، وهي أن الإله سبحانه لم يُجوز لرسولهِ الكريم أن يستخدم نقيض الرحمة والرفق مع الناس، فقال لهُ إنما أنت مبشر، مُبلغ، شاهد، لست عليهم بوكيل، وليس عليك إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين وإلى آخر أساليب الدعوة بالحُسنى، إذ أن جملة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء 107 أصبحت أيقونة مشرقة لرسولنا الكريم، أكثر من ذلك، فإن حتى هذا الإله بعظمتهِ وبسلطانه القاهر، قد ألزم نفسه بالرحمة فقال (قُل لِّمَن مّا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ قُل لِّلّهِ كَتَب عَلى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ) الأنعام 12، بل تكاد تكون صفة الرحمة مقاربة لِاسم علم الذات الإلهية كما في قوله تعالى (قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ) الإسراء 110، وفي هذا دلالة لطيفة على أهمية سِمة الرحمة، ولذا نجد بعض أهل العلم قال: إن الرحمة والعفو تمثلان أحد مقاصد الدين وخطوطه
العريضة.
وبالنظر لعنوان المقال المتضمن لمفردَتي الدين واللاهوت، فصحيح أني خلطتُ للتو بين مفهوم الدين بوصفهِ مجموعة اعتقادات ورموز وطقوس ومفهوم اللاهوت بوصفهِ الدراسة المُمنهجة لعالم الإله وصفاته وتدخلاته في الحياة، ولكن الأمر هو الأمر، لما في المفهومين من اشتباك وتداخل وطيد.
وأتصور أن العائق المعرفي دون الوصول إلى اللاهوت الرحماني، لا يلبث أن ينهار إذا استطعنا أن نغرس هذا المعنى في الجيل الجديد منذ البداية، لأن الأسس المعرفية التي يبتني عليها لاهوت الإقصاء والعنف وهو المفهوم المقابل لمفهوم الرحمة والاحتواء، هي أسس هشة نسبيًا ولا تستقيم أمام النقد، فلم يثبت حديث الفرقة الناجية سندًا وهو يعاني من اضطراب دلالة كما يؤكد بعض الدارسين.
والمذاهب الموجودة الآن تعبر عن تأويلات ومشارب مختلفة للنص الديني، أكثر مما تعبر عن حق أو حقيقة معينة و إلى آخر المباني المعرفية للاهوت انحصار الحق والهداية والنجاة التي لا تصمد أمام النقد الموزون.
فالكلام حول المباني المعرفية للاهوت العنف وأحادية النجاة غير متين، فلا يبقى من أجل النهوض بنظرية لاهوت الرحمة ولاهوت أصالة الإعتراف بالمختلف، سوى البدء من جديد مع الجيل الناشئ في المدارس والبيوت وبقية أندية ومرافق الحياة الأخرى، وذلك عبر ضخ مفاهيم مثل طبيعية التعدد في فهم الدين، وأن للحقيقة تجليات مختلفة، وأن النجاة ليست منحصرة في مذهب أو توجه معين، وأن خلاف الأوائل لا يعبر عن عقيد الدين بقدر ما يعبر عن اختلافات اجتماعية، وأن الرحمة والاحتواء هو الأساس الذي يدل عليه العقل المجرد والدين، والى آخر ما ينبغي أن يُزق به الجيل الجديد.
لا أحد يُنكر أن العنف شيء مضفور في النفس البشرية وأنه ذو بعد افتتاني لامع ومغرٍ كما تؤكد أبحاث الأنثربولوجيا، إلا أن الدِربة على مضادات العنف ومحاولة تجفيف منابعه ومحفزاتهِ أمر غير صعب المنال كما أثبتت التجارب، وهذا في الأخير أملنا في المقام.