المعضلات بنيوية والمعالجات آنية

منصة 2023/05/22
...

  أ.د. سيّار الجميل 

إن كل المؤسسات التربويَّة والتعليميَّة والبحثيَّة العربيَّة اليوم، تعيش مشكلات صعبة للغاية وأزمات متنوعة، وهي في خضم تراجعات مخيفة مع تحولات العالم منذ السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ولكن حالات العراق أصعب وأخطر كونه يعيش معضلات بنيويَّة لا تنفع معها أيَّة حلولٍ آنيَّة، ولا أيَّة معالجات سطحيَّة ساذجة وهي تتصل بجملة من المرافق المهترئة كونها تحيا في دوامة مخيفة ومفرغة من عوامل التحديث ومن عقليات التنوير ومن النضج، وهي امتداد لتفاقم كل المشكلات التي حفل بها العراق منذ أكثر من خمسين عاماً.

دعوني اليوم أعالج في (كشوف 8) هذه البِنْية التي أجدها تمشي نحو العزلة إن بقيت أوضاعها تسير من سيئ الى أسوأ، إذ سينتهي اعتراف العالم بنا نهائياً.

تشخيص الحالة

لا أدري إنْ كانت العزة بالإثم لدى العراقيين تأخذهم وهم يتغافلون عن واقع هذا المرفق الحيوي في حياة أجيالهم، أم أنَّ من مصلحة نفرٍ بسيطٍ يعمل في هذه "المؤسسة"، سواء في المدارس أو المعاهد والجامعات إبقاء الوضع على ما هو عليه، فالتغني بالماضي لا يجدي نفعاً مهما بلغت مدارس العراق من العظمة عبر التاريخ. 

ما يفيدنا هو كيفيَّة بناء المستقبل من خلال هذا الحاضر بكل واقعه المضني. 

وأنا واثقٌ أنَّ معظم العراقيين يحلمون بالارتقاء كما أسمع وأقرأ، ولكنْ بعيداً عن فهم المعضلات، إذ يجدونها مجرد مشكلات عابرة يمكن إصلاحها وعلاجها. 

وعليه، فكثيراً ما يسألك العراقي: وأين الحل؟

وما العلاج؟

وكأنَّ علاج بِنْية كاملة متهالكة يأتي بيوم وليلة! ولم يفهم حتى اليوم بأنَّ الإصلاحات في التعليم العالي لا تنفع أبداً، وأنَّ ما يقدّم من حلولٍ وخططٍ لا يمكن تنفيذها بسبب أنَّها غير منفصلة عن حياة المؤسسة التربويَّة التي تستوعب عناصرها الآلاف المؤلفة من الطلبة والطالبات في مدخلات جامعيَّة يتخرجون في مخرجات بتأهيلٍ 

ضعيف.

إنَّ تفاقم المشكلات المتنوعة أسهم في خلق معضلات يصعب حلًّها سواء على مستوى التدريسات أو المناهج أو الملاكات أو الأقسام أو القراءات أو البيداغوجيات التي تستخدم في التربويات المدرسيَّة أم التربويات الجامعيَّة، وإذا انتقلنا الى البحوث والترقيات والحياة العلميَّة واللغة الأم واللغة الانكليزيَّة فسوف نخرج بأنَّ العراق كله يعاني من كرة ثلجٍ منحدرة وهي تكبر وتكبر وستتحطم في النهاية – لا سمح الله - وسيكشف المستقبل صحة ما 

أقول.

وبطبيعة الحال، إنَّ من يملك إحساساً بالمسؤوليَّة لتفهمه ما أقول سيتعاطف مع ما أقول.. أما من لم يدرك عواقب مقول القول، فسيقف ضد أي تعرية لهذا الموقف الذي لا يليق بالعراق وأهله أبداً.


جيلان اثنان إزاء تحديات صعبة

اليوم، نحن في العراق أو في خارجه نتكون من جيلين اثنين، جيلٌ مضى زمنه وعاش وعمل وعانى طويلاً من كل المصاعب خلال الثلاثين سنة المنصرمة قبل 2003، وجيلٌ جديدٌ وجد نفسه في مأساة من نوعٍ آخر وهو في الميدان بعد العام 2003، وهو ينصت لما يقوله الأوائل سواء كانوا في الدواخل أو في المهجر، فلا يجد لغة مشتركة مع الأواخر الذين يعانون من اهتراء لا حدودَ له ومن ضعف منتجات المدارس ومن ضعف منتجات 

الجامعات. 

وأسمعُ كلاماً لا حدودَ له مع الأمنيات والأحلام ولكنْ كل الكلام مباحٌ بلا ضريبة، إذ يكمن العجز في تنفيذ ذلك أو تطبيقه بحكم الأوضاع التي ابتلي بها العراق.

وأسمعُ عن حلولٍ ومعالجاتٍ بلا نتائج على الأرض؛ لأنَّ العاقل يدرك أنَّ من المستحيل حمل الماء الى العطاش في قربة مقطوعة! وعليه، فإنَّ الكل عاجزٌ عن تخيّل أو تصوّر ما يمكن تشخيصه لمعالجته ولكنه مرتبطٌ بمشكلات من نوعٍ آخر سياسياً أو اجتماعياً، وأنَّ إصلاح جزء من المنظومة لا يصلح فعله إنْ كانت كل المنظومة تعاني من التهرؤ الذي يزحف في نسيجٍ من الفساد والتجاوزات والخراب، بحيث لم يعد العالم يعترف بشهادات رسميَّة صادرة من جامعات عراقيَّة غدا عددها اليوم أكثر من 40 جامعة بين رسميَّة وأهليَّة يزداد مستواها العلمي والبيداغوجي انخفاضاً مع سوء منتجاتها والضعف العلمي لملاكاتها، لتغدو أشبه بمدارس عاديَّة وهي كلها بلا برامج ولا مناهج ولا خطط، مع اعتقادي أنَّ هناك من يطمح أنْ تكون هذه المؤسسة مزدهرة ومتطورة.

إنَّها جناية السياسات الغبيَّة على الأجيال العراقيَّة، لا سيما أنَّ العراق يتميز بتوالد المبدعين فيه وهو كما قيل "كنز الرجال"، وأجد أنَّ هناك منهم من يسعى مخلصاً كي يقدّم حلولاً وهو يؤمن بأنَّ الإصلاح يأتي ببساطة ويسر. 


الإصلاح: بضاعة خائبة لا نفع فيها

إنَّ وضع ما يسمى بالاستراتيجيات والخطط العليا لا تنفع إنْ لم تطبق ولا تلغى، وإنَّ الوزارة لا يمكنها أنْ تصلح أوضاع هذا العدد الكبير من الجامعات، ولا يمكنها أنْ تزيل البطالة المقنعة في الأقسام العلميَّة والكليات، ولا يمكن أنْ تعلم العدد الكبير ممن حملوا ترقيات علميَّة اللغة العربيَّة واللغة الانكليزيَّة بشكلٍ صحيح، ولا تستطيع أنْ ترفض استقبال الآلاف المؤلفة من خريجي بكالوريا المدارس وهم غير مؤهلين للدراسة الجامعيَّة بسبب انعدام وجود المعاهد التقنيَّة لاحتوائهم، فالعراق بلا صناعة ولا زراعة.. ولا تستطيع أنْ تبقى ملتزمة بما رسمه الوزير الفلاني أو ذاك العلاني لانعدام الروح المؤسسيَّة التي ذهبت منذ عشرات السنين وحلت بدلها النزعات الشخصيَّة أو الحزبيَّة أو المصالح البنتهاميَّة! قد تنفع الإجراءات باختيار الثلاثة الأوائل في كل قسم ليكونوا فيه منذ البداية فيكملوا دراستهم إنْ كانوا كفؤاً لذلك، ولا تنفع أيَّة مجالس استشاريَّة ولا أيَّة خططٍ بعيدة المدى لصناعة النخب، فالنخب هي التي تصنع نفسها في أجواءٍ حرة ومدنيَّة تتوفر فيها فرص الحركة لكل المبدعين، فالجامعات لا تصنع نخباً، كما ليس باستطاعتها أنْ تصنع إنساناً جديداً وهي بأوضاعها 

الحاليَّة. 

فمن هو هذا الذي يصنع الإنسان الجديد في العراق، فالأدغال تقتل الزرع والضرع والزهور وتمتد نحو كل الامداء.

وعليه، فالمطلوب أنْ توقف الأدغال لتبدأ الحياة تسترجع عافيتها من جديد.


استقلاليَّة الجامعات

استقلاليَّة الجامعات مهمَّة جداً، ولكنْ إنْ اعتمدنا هذه الصيغة، فمن يضمن لي نزاهة الجامعات وكفاءة منتجاتها، وخصوصاً الأهليَّة التي عرفنا كم يُقْتَرف فيها من الآثام والمربقات؟

قبل أعوام، كلّفت من قبل أحد المراكز البحثيَّة العربيَّة بتقويم أطروحة دكتوراه عراقيَّة من أجل نشرها، فكتبت تقريراً بعدم صلاحيتها ورفض نشرها بسبب ما قامت به صاحبتها من سرقة مفضوحة لمادتها كلها من الألف الى الياء من دون أنْ يكتشفها ممتحنوها الذين منحوها درجة امتياز عليها، وطالبت في التقرير مفاتحة وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي لاتخاذ إجراءاته بحقها، وقد أرسل إليه المستمسكات وكل القرائن، ولكنه لم يجب ولم يتخذ أي إجراء ولم يفعل شيئاً!

إنَّ النزاهة معدومة والأمانة العلميَّة مفتقدة اليوم.

 قبل أكثر من خمسين سنة، اتهم أحد الأساتذة بتهمة سرقة أطروحته من زميلٍ له وقد ثبت عليه ذلك، فأنزلت رتبته العلميَّة الى مدرسٍ وبقي سنوات طويلة بهذه الدرجة.. وفي أيَّة جامعة في العالم إنْ اكتشف هذا الأمر لدى أحد خريجيها، فهي تسحب شهادتها منه وتعلم العالم كله 

بذلك.


استراتيجيَّة تبديل مع استئصال الآثام

أما إذا كان البعض يطالبُ بصناعة ملاكات المعلمين في الابتدائيات والمدرسين في الثانويات من أجل تبديل الملاك التدريسي في غضون عشر سنوات، وهي خطوة ممتازة حسبما أعتقد، فمن يضمن أنَّ عشر سنوات كافية لمثل هذا التبديل؟ 

ومن يضمن تخريج كفاءات عليا للآلاف المؤلفة من المعلمين والمدرسين للمدارس؟

ومن يضمن أنَّ من سيقوم بهذه المهمة سيبقى في منصبه لإكمال المهمة؟ 

وهل يضمن تخليص البِنْية العراقيَّة كلها من آثام المشكلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة بما فيها من مخاتلات ومحاصصات ولعبٍ على الذقون ومحسوبيات ومنسوبيات ووساطات وعشائريات وأخلاقيات هابطة؟

 هل من مجلس أعلى للتربيَّة والتعليم في العراق؟

إنَّ تحديث مؤسسة التربية والتعليم في العراق ينبغي أنْ تنفصل نهائياً عن النظام السياسي الحاكم وعن كل السلطات السياسيَّة الأخرى ومن كل السلطات الاجتماعيَّة، فقد خربت السياسة حياة المدارس والجامعات العراقيَّة معاً في حين كانت أروقة المدارس وحرم الجامعات أشبه بالمقدّس ويحترمه الجميع ولكن خربتها السياسات مذ عدّ الطلبة قوى سياسيَّة وسخرت للفوضى في الشوارع ورفع الشعارات والابتعاد عن تقاليد الدراسة وحرمات الجامعات.

على النظام التربوي والتعليمي أنْ يبقى رسمياً ومستقلاً وله ارتباطه بالدولة شريطة استقلاليَّة سياساته ويدير أعماله كلها مجلس أعلى للتربية والتعليم لا يرتبط بالوزارة التي من شأنها أنْ تكون علاقتها إداريَّة وماليَّة صرفة، أما الجانب التربوي والعلمي فهو من مهام هذا المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي تسيّره نخبة من أكفأ أساتذة العراق، وحبذا لو استعان ببعض الخبراء الأجانب، وأنْ يكون بعيداً عن الأحزاب وسلطات المجتمع الأخرى كالعشائر والجهويات والأديان والطوائف والمذاهب.

ويكون مسؤولاً عن الجودة وتحسينها وعن التدريسات والمناهج والتعيينات والترقيات والمتابعات والدورات والتفتيش والرقابة والتقويم والأداء ويمارس صلاحياته في إيقاف أي جهازٍ عن العمل إنْ وجد أيَّة ظواهر سلبيَّة.. مجلس أعلى للتربيَّة والتعليم على غرار الموجود في تركيا ويتكون من نخبة مميزة وينتخب الرئيس من قبل الأعضاء كل 8 سنوات ليتسنى له ضمان تنفيذ أيَّة برامج أو خططٍ طويلة المدى، كما ويخطط لمستقبل الأجيال بعيداً عن كل الخطايا التي ترتكب باسم الجامعات خصوصاً.


أسئلة معروفة الإجابات

لديّ بعض الأسئلة التي لا يمكن تجاوزها والسكوت عنها، فهل فكّر كل من يحمل عقلاً وتدبيراً كم منحت شهادات عليا لأناسٍ لا يستحقونها أصلاً؟ 

كيف تمّ تسييس التعليم العالي خاصة؟ 

كيف تمّ العبث بالمناهج المدرسيَّة والجامعيَّة على امتداد خمسين سنة مضت من حياتنا؟

كم من العراقيين المبدعين والأذكياء وأصحاب المعدلات العالية قد حرموا من العدالة والإنصاف في الدخول الى كليات معينة بذاتها لأسبابٍ تقدّم غيرهم عليهم بإضافة درجات لهم كونهم أبناء شهداء أو أبناء حزبيين؟

كم وظف وعيّن في الأقسام العلميَّة على أسسٍ سياسيَّة حزبيَّة؟ 

كم ابتعث للدراسة في الخارج لأسبابٍ سياسيَّة وحرم الآخرون بسبب استقلاليتهم؟ 

كم اعترفت وزارة العليم العالي بآلاف الشهادات المزورة والمشتراة؟

كم ازدحم العراق بأصحاب الشهادات العليا حتى وصل الحال حد الابتذال ؟

كم زوّرت شهادات ومستندات باسم الجامعات ولم يحاسب من يحملها ؟

كم ارتبطت المناصب العلميَّة الجامعيَّة خصوصاً (وليست الإداريَّة فقط) وفي كل عهدٍ من العهود بأسماء سياسيين وحزبيين موالين لهذا العهد أو ذاك النظام؟

وكم أساء حملة الشهادات العليا بلا استحقاقٍ الى التربية والتعليم في العراق؟ 

كم غدت عمليَّة الترقيات العلميَّة تمرّ عبر مسارب وصوليات ومحسوبيات وبيع وشراء وعلاقات شخصيَّة في حين تمرّ في كل جامعات العالم بتحقق اشتراطات صعبة وخصوصاً نشر البحوث في مجلات ودوريات عالميَّة مع تقويمات علميَّة صارمة؟ 

في حين يزدحم العراق اليوم بـ "الأساتذة" غير المؤهلين لحمل اللقب؟ 

وكنت آمل أنْ يتمَّ الاتصال بكفاءات العراق في الخارج، وبالرغم من ادعاءاتهم الواهية أو اتصالاتهم المعينة مع أشخاصٍ بالذات، إلا أنَّ انتقاءهم بعض الأساتذة الذين ذهبوا الى العراق لم يجدوا ترحيباً من أهل الداخل ولا أي انسجام بين الطرفين، إذ إنَّ شرخاً عميقاً قد وجد بين أهل الداخل وأهل الخارج – كما يسمونهم-.


السؤال الدائم: ما الحل؟

إنَّ المشكلة الأساسيَّة لدى العراقيين عموماً إيمانهم بأنَّ المعضلات والمشكلات لا جذور لها، فهم لا يربطون الماضي بالحاضر، وإنَّ الدولة في عهودها السابقة العسكريَّة والحزبيَّة والإسلامويَّة اليوم قد اعتبرت الملاكات العلميَّة والنخب الأكاديميَّة مجرد موظفين عاديين حالهم سواء مع غيرهم في ميادين الدولة، فإنَّ ذلك كان كارثة الكوارث، فالدولة تعدُّ نفسها هي وراء صناعتهم في حين أنَّ الأستذة العلميَّة هي التي يصنعها صاحبها بنفسه وبعقله. 

وإنَّ أغلب العراقيين يطالبون دوماً سائلين: ما الحل؟

إنَّهم يريدون حلولاً مع انتفاء تصورهم أنَّ المشكلة لا جذور لها، أو هكذا يتخيّل، فإنْ كان تصورهم القاصر لا يبتعد عن السؤال: ما الحل؟ 

فإنَّهم لم يفكروا أساساً في المستقبل، فلا الماضي انتهى، ولا الحاضر توقف فيه التدهور، فكيف يمكنهم أنْ يتوقعوا إذاً صورة المستقبل؟

هل تم التجّرد من الانحيازات؟

هل عرفنا تنبؤاتهم عن المستقبل؟ 

هل بالإمكان وضع خطة لإيقاف الدراسات العليا لمدة خمس سنوات فقط من أجل التكّيف مع الخطة ضمن أصولٍ وتقاليد علميَّة جديدة؟

هل أعلنتم عدم الاعتراف بالشهادات المزّورة والمشتراة من الخارج؟ 

هل ساويتم بين الدراسة الدينيَّة والدراسة المدنيَّة؟ 

تلك ثالثة الاثافي! إذا لم تتخذوا أيَّة إجراءات عمليَّة وحقيقيَّة، فكيف العودة الى مستويات نموذجيَّة يمكن الاهتداء بها للوصول الى المستوى العلمي المرموق.

وأخيراً، فإنَّ المعضلة بِنْيويَّة وبحاجة الى اشتراك كل مؤسسات العراق في بناء استراتيجيَّة بعيدة المدى، بغرس الوعي والإدراك واكتناز الثقافة العامَّة وتهذيب اللغة المحكيَّة.. الخ من المستلزمات حتى نتمكن من خلق مناخٍ عامٍ باستطاعته صنع النخب مع سلاسل أجيال جديدة تختلف تماماً عن الأجيال السابقة.


مؤرخ عراقي