الدول وفكرة العقد الاجتماعي

آراء 2023/05/23
...

 ميادة سفر

تعتبر الفلسفة السياسية الحديثة أنّ ولادة الدولة لم تكن وليد الصدفة، ولا أمراً عارضاً في التاريخ، فالدول لا تخلقها الآلهة ولا تنبثق من الطبيعة، بل هي نتاج إرادة بشرية خالصة، وخيار لمجموعة من الأفراد، بما بات يعرف بالعقد الاجتماعي، الذي نظَّر له الكثير من المفكرين والفلاسفة، واضعين إطاراً عاماً لنظام الحكم في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر

على رأسهم توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، وتشير فكرة العقد الاجتماعي إلى انتقال الأفراد من الحالة البدائية إلى حالة المجتمع المنظم.

كان توماس هوبز متأثراً بعنف الصراعات الدينية التي مزقت أوروبا في ذلك الوقت، لذلك جعل مسألة الأمن أساساً للدولة والمجتمع، واعتبر الحكم المطلق ضرورياً لحماية المجتمعات من الفوضى، انطلق من الحالة الطبيعية التي سبقت تكوين المجتمع، وفيها تقود الإنسان رغبة السيطرة على الآخرين، فهو يرى الإنسان في حالته الطبيعية أنانياً وذئباً على الإنسان، لذلك سادت الحرب والصراعات وعمت حالة عدم الأمان المليئة بالخوف وغريزة البقاء.

انطلاقاً من هنا قرر الأفراد برأي هوبز الاتفاق والانعتاق من حالة الطبيعة تلك، والدخول إلى حالة مجتمعية جديدة، لذلك يغدو إنشاء عقد اجتماعي في ما بين الأفراد أمراً ضرورياً لضمان أمنهم، يتخلون بموجبه عن حقوقهم وحريتهم لصالح سلطة مطلقة يخضعون لها، وقد رأى البعض أن نظرية توماس هوبز تدعو أو تبرر سلطة الحاكم المستبد بدعوته إلى الحكم المطلق.

بينما يشكل فكر جون لوك الانطلاقة الفلسفية للفكر الليبرالي، والعقد الذي يدعو إليه ليس عقداً فعلياً، وإنما هو عقد اعتباري يفوض بموجبه الأفراد شؤونهم إلى سلطة سياسية عليا ولكنها ليست مطلقة، وفقاً لأسس وشروط محددة على رأسها احترام وحماية حقوقهم الطبيعية (الحياة، الحرية، والملكية)، وقد رأى لوك أنّ الحالة الطبيعية للبشر لم تكن مبنية على العنف والصراعات كما لدى هوبز، بل كانت حالة تناغم تسودها الحرية والمساواة، ويعتبر جون لوك أول من وضع اللبنة الأساسية لمفهوم التسامح في كتابه رسالة في التسامح، ورفض إجبار الناس بالقوة على اعتناق مذهب أو دين، لأن ذلك يؤدي إلى مزيد من العنف في المجتمع، وكانت لأفكار لوك أثرها في صياغة الدستور الأميركي من خلال مفاهيم الحقوق الأساسية التي تضمنها إعلان الاستقلال.

يبدو مفهوم العقد الاجتماعي والحالة الطبيعية مختلفاً لدى جان جاك روسو، فالحالة الطبيعية للأفراد هي حالة براءة وطيبة تمتاز بالحرية والاستقلال والسعادة، أما الحالة المجتمعية القائمة على الملكية، فما هي إلا عنف وتفاوت بين البشر، لذلك استهل كتابه الشهير «العقد الاجتماعي» بعبارة: « يولد الإنسان حراً، لكنه يوجد مقيداً في كل مكان، وهو يظن أنه سيد الآخرين، وهو يظلُّ عبداً أكثر منهم»، لذلك أكد على الحقوق الأساسية للإنسان وفي مقدمتها حقه في الحرية والملكية.

إنّ الإنسان يعيش في المجتمع حالة استلاب بسبب التفاوت في توزيع الثروة والأراضي، لذا وجد روسو أنّ اتفاق الافراد بحرية على عقد اجتماعي في ما بينهم وبين السلطة، يوكل بموجبه إلى إرادة عليا وحيدة أمر العناية بشؤونهم، لكنها إرادة عامة تستمد شرعيتها من الشعب، يكون كفيلاً بتقليل التفاوت بين الأفراد، حيث تكون المصلحة العامة هي الأساس في كل شيء، كان لأفكار روسو أثرها الكبير في قيام الثورة الفرنسية ومبادئها وشعاراتها التي نادت بها مثل الإرادة العامة وسيادة الشعب، غير أنّ البعض رأى أنّ أفكار روسو كانت في المقابل منطلقاً لما بات يعرف بالشمولية.

على الرغم من الاختلافات في ما بين أفكار الفلاسفة الثلاثة، إلا أنّ ذلك لا ينفي أهميتها وأثرها الكبير في المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت، بل كانت أساساً لكثير من الدساتير والأنظمة الحاكمة في غير بلد، ويبدو أنّ أكثر ما نحتاج إليه في بلادنا هو عقد اجتماعي جديد بين الافراد والسلطة يعيد ترتيب النظام وضمان الحقوق الأساسية للأفراد، لا سيما حقهم في الحرية والحياة والملكية، وإلا سنظل نعيش تلك الحالة البدائية التي قالها هوبز والقائمة على الفوضى  والعنف.