عبد الغفار العطوي
لقد أدرك الفريقان المختصمان؛ فريق الفلسفة العقلاني (العقلانية هنا تعني الضبط المنهجي للمفاهيم في فهم العالم بنظر الفلسفة)، وفريق الأدب الخيالي (في رؤيته للعالم من خلال التخيل) وهما يخوضان في رهاناتهما كل على انفراد أزاء أسئلة المعرفة (مجتمع المعرفة) والتفكير النقدي بالذات، في ما بعد تخلي الغرب عن كل منجزات ما بعد الحداثة التي حاولت اتمام صفقة لقائهما من دون جدوى، والعودة إلى مراجعاته في المعرفة (القائمة على أهمية التفكير وأنواعه وتعلمه) التي أوصلت العالم نحو نفق مغلق كانت الرهانات الغربية في المعرفة الناعمة (بعكس القوى الناعمة) المعتمدة على المعلوماتيّة، تؤشر، على خطورة هذين السؤالين اللذين تثيرهما الإشكاليات المعرفيّة المعاصرة.
وهي تبحث على أرضيّة مشتركة للصراع السسيوثقافي فيما بينهما، و ما تتم سياقه في مقولة جاهزة للتطبيع في عدم فهم (ألا فرق بين ما تطرحه الفلسفة، وما يطرحه الأدب) وهذا افتئات على حقيقة الفوارق القائمة بين الفلسفة والأدب في أزمة الفلسفة التي أثارتها هي نفسها في نمطي العقلية في حدود الحداثة واللاعقلانية في المعرفة السيالة لما بعد الحداثة، أما محنة الأدب فأدهى وأمر كما سنرى في كتاب (نظرية الأدب) لتيري إيغلتون في تأكيده على الربط بين أن هنالك نظرية أدبيّة، فإنّ ثمة لزام وجوب نظرية للأدب.
ففي خاصية السؤال الأول، متى يتم لقاؤهما، فيتعلق في اتفاقهما على تبني مفهوم الوعي الذي يقره منظروهما (كل فريق يعمل بمفرده) فالوعي لا يتحقق إلا بالاعتراف بقبولهما أسئلة المعرفة باعتبار المعرفة أصبحت قضية مصير وسؤال انتماء لا مجرد اختيار في (التفكير الجاد في تعميق عقلنة العالم) في خضم تحولات زمن العالم، أما الإجابة عن السؤال الثاني: أين؟ فقد توخت الفلسفة الإيمان بأنّ من الأولويات في لقائهما أن يكون ذلك اللقاء تحت مظلة منظور علمي مقيد بالمنهجيّة التي تفضلها، ومن جانبه، لوّح الأدب بالموافقة على فكرة أن يكون للأدب نظرية تحفظ له قدرته على استيعاب أسئلة المعرفة التي يقرها الوعي الراهن وهو بطرحها وفق تصورات مشتركة للفلسفة والأدب، بيد أن الناقد والمترجم العراقي سعيد الغانمي، له وجهة نظر، ورؤية ثانية يستعرض بها المقارنة بين فاعلية الأسطورة التي هي خاصية شبه أدبية وبين معاينة العلم باعتباره استقراء وصفياً أساسه فلسفي، في كتابه (فاعلية الخيال الأدبي) وهو يسوّق أفكاراً خلابة في اقتحام البلاغة العقليّة للمعرفة في جنبات الخيال، يمكننا وصفها بالنادرة في تبرير استخدام المجال العقلاني في الفلسفة بإيقاد الخيال بفاعلية المعرفة الأدبيّة، يقول الغانمي حين نتحدث عن سقراط (ف 6 ص 173 فاعلية الخيال الأدبي) فهذا سقراط خليط من مفهومي العقلنة والأسطرة (الجميع يعرفه من هذه الناحية) حين نتحدث عنه، فنحن نتحدث عن عقل عظيم استطاع أن ينقل طريقة التفكير من التمركز حول الأسطورة إلى التمركز حول العقل، نحن لا نقدر أن نقول عن سقراط إنه كان جاداً في التفريق بين الاسطورة من كونها فاعلية في الخيال الأدبي، وبين العقل، بالمعنى العقلاني، لكن كل الذي يمكننا المراهنة عليه في عصرنا فقط على جنوحه الخيالي المعقلن، وهو يفسر في تصور سانح لنا التحول المعرفي في راهنيته، فلقد دخلت الإنسانية إلى براديغيم معرفي وتبادلي جديد في الوقت الذي كانت المعرفة محصورة في دوائر الحكماء سابقاً، وكان أفضل مما طرحه تيري إيغلتون في (نظرية الأدب ترجمة ثائر الديب الناشر- المدى) عندما اوضح أن الأدب حين يضم الكثير من الكتابة الوقائعية يقصي أيضاً قدراً وافراً من التخييل، فإن كان سقراط العقلاني كما يتصوره الغانمي ليس سقراط الذي نتخيله في صورته الشخصية، المليء بالحكمة، لكن في صورة سقراط التي هي لم تكن واحدة قط، بل هناك صور متعددة عنه لتعطينا أكثر من سقراط، إذاً لماذا تبدو الفروق بين الفلسفة التي تلتزم طابع العقلانية، وبين النمط الأسطوري الأكثر بروزاً في فاعلية الخيال هي الأشد جدلاً؟، لما وجه التيار المضاد لما بعد الحداثة سهام نقده السلبي أقر حقيقة تجاوز العقلانيّة والمنهجيّة من قبل منظري ما بعد الحداثة، في خضم معلومة بقدر ما كانت ما بعد الحداثة حركة نقدية واسعة لدعائم وأسس وتبعات مشروع الحداثة بقدر ما كانت في حد ذاتها مثار نقد وجدل واسعين للعلوم الإنسانية التي آمنت بالمفهوم العقلاني للحداثة كعلم الاجتماع، كانت الفلسفة تضغط باتجاه عقلنة المعرفة في العالم الذي تحول إلى مجتمع معرفة خالصة.
ويظهر أن مجتمع معرفة الذي يشتغل عليه الفكر والفلسفة يمكن اختزاله باعتباره آلة تقنيّة، إنما هو إجماع روافد ثقافيّة، بينما قطعت نظرية الأدب أشواطاً واسعة في تعقب منجزات ما بعد الحداثة، والمساهمة في نقد ما أنجزته الحداثة في قرن منذ عام 1918 إلى عام 1980 أي عام اللقاء بين الفلسفة والأدب على مضض في جملة من التيارات الفكرية في علم الظاهرات والتأويل، والبنيوية والسيميائية، وما بعد البنيوية، والتحليل النفسي، والتحليل السياسي، كأن فاعلية الأدب في لقائها مع عقلانية الفلسفة قد بينت لنا صعوبة تحقيق ذلك اللقاء بغياب مجتمع المعرفة، بسبب أن الأدب لا يفكر، غير أنه لا شك في أن أدبيات كثيرة ازدهرت في الآونة الأخيرة اتخذت من مجتمع المعرفة
موضوعاً لها.