عفاف مطر
ليس مجرد مبنى جميل يقع في وسط القاهرة، ولا محض مكانٍ أثري يتجاوز عمره مئة عام، بل ساحة جمال ونافذة للتواصل الفكري الحق ومحراب للفن، له دستوره الخاص الذي لا يتغير منذ نشوئه.
كانت البداية من حديقة الأزبكية وتحديداً حين وصل نابليون الى مصر، كانت هذه الحديقة منتجعاً للهو والتسلية منذ عهد المماليك، يجتمع فيه فن النخبة وفن العامة، تتنوع الفعاليات بين المسرح الجاد وصندوق الدنيا وعزف الربابة وعروض العوالم (الراقصات)، فضلا عن إلقاء الشعر؛ باختصار كان يجمع بين الفن والثقافة والتسلية؛ الى أنْ جاء بونابرت وبنى مسرحاً وسط كل هذا ليكون متنفساً لجنوده وللمصريين أيضاً.
"مسرح الأزبكية"
أقدم إشارة الى المسرح وردت عند الجبرتي حين قال: "وفيه كمل المكان، الذي يمثل فيه الفرنسيون، والدخول فيه بورقة معلومة وملابس مخصوصة" وكان اسمه حينذاك مسرح الجمهوريَّة والفنون.
محاولة نابليون الأولى لغرس البذرة الأولى للمسرح في مصر لم تؤت ثمارها بسبب قيام ثورة القاهرة الثانية ضد الحملة الفرنسية عام 1800.
تحولت بعدها الأزبكية الى حديقة عامة غاب عنها المشهد المسرحي حتى تولى الخديوي إسماعيل مقاليد الحكم، وكان معروفاً باهتمامه بإنشاء الحدائق العامَّة، وقرر إعادة إنشاء المسرح، وعهد مسؤولية بنائه الى المهندس الفرنسي فرانس وتم افتتاحه في العام 1873، وكان يسمى "مسرح الأزبكية فوق بركة المياه".
تواردت عليه الفرق المسرحيَّة من دولٍ كثيرة حتى اتخذه الرائد المسرحي جورج أبيض مقراً لشركته عام 1912 وقدم في السنة نفسها مسرحية "أوديب الملك" وقام جورج بأداء دور أوديب.
وبسبب نشوب الحرب العالميَّة الأولى فرضت الأحكام العرفية على البلاد ومن ضمنها المتنزهات والمسارح فتراجعت أحوال المسرح وفرقه الكلاسيكية أمام المسرح الهزلي.
"شركة ترقية التمثيل"
في العام 1920 تم تجديد مسرح الأزبكية وافتتحه خليل مطران بخطبة مشهورة وأطلق عليه "شركة ترقية التمثيل" ثم اشتراه طلعت حرب واستأجرته الحكومة المصرية منه مقابل اثني عشر جنيهاً مصرياً سنوياً وتم بناء الأجزاء المهدمة فيه، وقام الإيطالي فيروتشي مدير عام المباني السلطانية وقتها بأمرٍ من طلعت باشا حرب بتصميم المبنى الجديد وهو التصميم القائم حتى الآن.
مرَّ المسرح القومي بأزماتٍ متعددة ففي العام 1929 اجتاحت الأزمة الاقتصاديَّة العالم كله، فقامت فرقة عكاشة بتأجيره للفرق الأجنبيَّة وتراجع مستواه الفني كثيراً.
أنقد المسرح من هذه الأزمة تأسيس الفرقة القوميَّة للتمثيل برئاسة خليل مطران عام 1935 وسميت في ما بعد "فرقة المسرح القومي"، وقد جمعت هذه الفرقة شتات المسرحيين الذين أفلست فرقهم بسبب الأزمة الاقتصاديَّة، وكان أهم رعاة الفرقة الشاعر خليل مطران وكان يُطلقُ عليه آنذاك "شاعر القطرين" وهو أول من ترجم مسرحيات شكسبير لعرضها، وثاني الرعاة عميد الأدب العربي طه حسين، ونجحت الفرقة باجتذاب أهم الكتّاب حينها مثل توفيق الحكيم ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة الذين عبروا بأعمالهم عن الطبقة البرجوازيَّة الصاعدة حينذاك وقادوا تياراً جديداً يسمى تيار تأصيل المسرح المصري، فبعد أنْ كان يعتاش على الأعمال الغربيَّة صار يتخذ شكله المصري القومي من هؤلاء الكتّاب الرواد وأعمالهم الأدبيَّة.
محافظ على التزامه ورصانته
استمر المسرح من نجاحٍ الى نجاحٍ عبر الأجيال، حتى أنَّ مسرحيَّة "الملك لير" وكانت من بطولة يحيى الفخراني استمر عرضها ثماني سنوات متتالية.
رغم توالي عدة مدراء على المسرح ولكل منهم ستراتيجيته ورؤيته الخاصة إلا أنه ظل محافظاً على التزامه ورصانته بفضل الدستور الذي كان له حدٌّ أدنى لا يستطيع أحدُ منهم تجاوزه.
للمسرح أخلاقٌ وسلوكٌ مفروضة على كل العاملين فيه ساعدت على الحفاظ على هذا الصرح ليبقى بعيداً عن الانحدارات التي تصيب السينما والتلفزيون من وقتٍ الى آخر، ولعلَّ البيت الشعري لأحمد شوقي المنقوش فوق ستارته المخملية الحمراء (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) هي دستور المسرح الرئيس.
خضع المسرح منذ نشوئه الى عدة عمليات ترميم وتجديد كانت اقساها عام 1993 حين بدأت المياه الجوفية تهدد أساسات المسرح؛ ذلك أنَّ المسرح مبنيٌّ على بركة مياه حديقة الأزبكية وحددت وقتها وزارة الماليَّة ميزانيَّة خاصَّة وعاجلة لإنقاذ هذا الصرح العظيم.
في 28 أيلول/ سبتمبر 2008 ولأسبابٍ لا تزال مجهولة تعرض المسرح لحريقٍ ضخمٍ هزَّ المصريين حكومة وشعباً وكأنَّ جزءاً من كيانهم وهويتهم يتعرض لتهديدٍ خطير.
بعد إخماد الحريق كانت الكثير من مرافق المسرح قد فقدت شكلها وأجزاءً من عناصرها تماماً، فأُخضع للترميم وتمت الاستعانة بصور حفلات أم كلثوم لإعادة الزخرفات القديمة كما كانت تماماً ورجع المسرح بألوانه وتفاصيله الفنيَّة كاملة كما كان عليه عام 1920، أي بعد ست سنوات من العمل الشاق، إذ تمَّ افتتاحه عام 2014.
لا يعني أنَّ المسرح القومي ولأنه ملتزمٌ بأخلاقيات وأصول الرواد كان بعيداً عن الكسب المادي، أبداً؛ كانت مسرحياته التي تعرض تعود بربحٍ مادي جيدٍ جداً، بل أنَّ مسرحيَّة "ألف ليلة وليلة" وكانت من بطولة يحيى الفخراني ومجموعة من الشباب قد حققت أعلى ربحٍ منذ نشأته، وفضلاً عن هذا النجاح الجماهيري الواسع حظيت المسرحيَّة أيضاً بنجاحٍ موازٍ على مستوى النقاد، لكنْ دون أنْ يحيدَ عن هدفه الرئيس وهو تقديم عروضٍ فنيَّة وأدبيَّة خاصة بغض النظر عن الربح المادي وظل ملتزماً بهذا الهدف حتى يومنا هذا.
متفاعل مع قضايا وهموم الناس
لم يتخلَ المسرح القومي يوماً عن هويته أو رسالته، ونجوميته كانت وما زالت تطغى على نجومية الممثلين الواقفين على خشبته.
ظل المسرح القومي متفاعلاً مع قضايا وهموم الناس عبر تقديم نصوصٍ للكتّاب الكبار أو الاستعانة بالفولوكلور العربي.
وللمسرح مواقفه السياسيَّة أيضاً فوقف بمسرحياته ضد الاحتلال الانكليزي، الأمر الذي تسبب بإغلاق المسرح في الثلاثينيات، كما ناقش في فترة الستينيات هموم الشعب والقضايا الاجتماعية كالفقر والجهل والفساد، علاوة على القضايا الفكريَّة على يد عبد الرحمن شرقاوي.
اعتاد المسرح القومي منذ بدايته وفي الخميس الأول من كل شهر على استقبال الحفل الغنائي الذي كان ينتظره المصريون والعرب لسيدة الغناء العربي أم كلثوم التي ظلت تشدو لسنوات عديدة على خشبته.
لا يتفرد المسرح القومي بما يعرض على خشبته بل بجمهوره المثقف المميز الذي يشبه جمهور الأوبرا فهو يستشعر ويعلم أنه يدخل الى محراب الفن وحصن الثقافة.
حالما يدخل الزائر الى هذا الصرح العظيم حتى يشعر بأرواح الأساتذة الكبار من الأدباء المؤلفين الى نجوم الفن والتمثيل والغناء العربي.