جين البداوة ونصف التاريخ

ثقافة 2023/06/06
...

جودت جالي



في كتابه السيري (الحجاب) يقول حامد درار إنه هو الحجاب، وآمنة أمّه حلمت وهي حامل به حلماً ترى فيه رجلاً مقدساً يُهدي لها تميمة، حجاباً على شكل ورقة بيضاء مكتوب عليها آيات من القرآن، وبعد أن ولدت حامد أدركت أنَّ هديَّة الرجل المقدس ليست سوى هذا الوليد.. “هكذا جئت، أنا حامد، إلى هذا العالم، ابن رجل حي وابن شبح معاً”. إنَّ العالم الذي وُلد فيه حامد كان سحرياً، ومهدِّداً، فطيور البوم مخلوقات تُنذر بالنحس، وفيما حامد نائم تقضي أمه الليل ساهرةً خوفاً من أن تدخل بومة خيمتها وترضعه من حليب البوم قبل أن تسرقه منها، وليس هذه فقط، “بل الشياطين والعفاريت أيضاً. ألم تَدُسْ امرأة على عفريت صغير في رماد مخيم مهجور؟ ألم يصرخ العفريت الطفل تحت قدمها؟ ألم تأخذ العفاريت طفلها ومسخته إلى طفل أسود البشرة؟”.

إنَّ الصورة التي لا خلاف عليها للبدو هي صورة القبائل المترحلة التي تجمع أبناءها صلة الدم وتقوم إما بغزو المناطق الريفيَّة المستقرة أو تتبع هجرة موسميَّة، غير أنَّ الحالة لم تكن بهذه البساطة في سودان طفولة حامد، إذ كان حافي القدمين من بدو الغابات نادراً ما يركبون الجمال أو الخيول، كان يصيد ويجمع الحطب للنيران، ويرعى الغنم والماعز، ويزرع السرغوم (ذرة حلوة) التي تحدث عنها في مذكراته كثيراً حتى أنه أوضح للقرّاء كيف ينظفونها بالماء ويجففونها بالشمس. أما الزمن في شرق السودان فلم يكن كما في بريطانيا أو مصر فالسنوات لا تُحسب بالعدد وكل سنة تُعرَّف بحدث (سنة القنابل، سنة القحط، سنة الفئران،...). عندما حان الوقت لتسجيل حامد قدرت دائرة الجنسيَّة مولده في سنة 1940. مع ذهابه إلى المدينة فسح السحر المجال شيئاً فشيئاً للحضارة والتكنولوجيا في حياته، وقد سجَّل دهشته حين رأى لأول مرة رجلاً يرتدي بنطالاً. إنَّ الناس في مدينة كسالة يركبون الدراجات التي كانت تسمى “الحمير الحديدية”، وحذره البعض من محاولة الحصول على مكان له في المدرسة الداخليَّة فمثل هذه الأماكن بنيت لفساد الأخلاق والشذوذ الجنسي، ولقد كانت رغبته في تحسين لغته العربيَّة وتعلم الإنكليزيَّة شديدة إلى درجة تجاهل معها هذه التحذيرات.

مع أنَّ معرفته بالعالم الحديث تقدمت وحصل على توظيف إلا أنه كان يلاحظ بأسف تراجع الحياة البدوية، وقيام البنايات الإسمنتية، وتدفق الأجانب، وظهور جرائم لم يعهدها الناس، وانحسار الغابات والأحراج. لقد تملكه الشوق لجلوس الشبان حول النار يستمعون إلى الشيوخ يقرؤون علامات المجهول، وخلفهم تجلس نسوة، عاريات الصدور، يراقبن ويستمعن.

إذا كان يمكننا عدّ هذا الشوق إلى الماضي في (الحجاب) شوقاً إلى ماض شخصي ألا يمكننا أن نعده جزءاً من التكوين البايولوجي الجيني أيضاً كما ذكر أنتوني ساتين في كتابه (البدو.. المتجولون الذين شكلوا عالمنا) في معرض حديثه عن البداوة من أنَّ الشوق إلى حياة البداوة حافز جيني في قسم من البشر يدفعهم إلى حياة التنقل؟ (ذاكراً فحوصات مختبريَّة لقبيلة قسم منها حضري وقسم بدوي في كينيا سنة 2008، وقد تبين أنَّ الذين يعيشون حياة بداوة يمتلكون تركيباً يرمزون له (DRD4/7R) جرت تسميته ﺑــ”جين البداوة”، في الوقت نفسه اقترح القائمون بالفحوصات تفسيراً جديداً للاختلال ADHD الذي يتصف حامله بكثرة الحركة. إنَّ ساتين على النقيض من جيل ديلوز الذي يرى أنَّ “البدو ليس لهم تاريخ بل جغرافيا فقط”، يرى هو أنَّ لديهم الاثنين ولكن لأنهم “يعيشون حياة متخففة” خارج المدن فإنهم ممحوون من التاريخ التقليدي، هذا التاريخ الذي مرت فيه أزمنة كان الناس فيها يتحركون كلهم عبر الأرض التي لم تكن فيها حدود غير ما تضعه الطبيعة، ويذهب إلى القول بأنَّ البدو قدموا إسهامات للحضارة البشريَّة، فالحضارات أوجدتها أقوام رُحّل في الأصل وقامت على قيمهم، وهو هنا يركز على منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

في كتاب (السير مع البدو) للبريطانيَّة أليس موريسون التي ربما تمتلك هذا الجين الذي دفعها إلى الترحل مع بدو شمال أفريقيا قبل أن تُكمل دراستها بالتخصص في العربيَّة فهي تقول: “لا بد للمغامرين من أن يغامروا”، ورحلاتها كانت مغامرات تتركها تتطور وتتخذ اتجاهاتها بذاتها، كما فعلت في رحلتها مع مجرى نهر درعة في وسط المغرب إلى ساحل الأطلنطي وأتبعتها بثانية عبر الصحراء الغربيَّة إلى حدود موريتانيا. إنَّ أليس لا تهتم مثل ساتين بالتاريخ البدوي أو تاريخ المغرب بل مهتمة بالماضي من خلال المصنوعات اليدويَّة التي تصادفها في دربها، وبالناس الذين تقابلهم في رحلتها وما يعكس وجودهم من أزمات مناخيَّة وسياسيَّة، وترى أنَّ “روحها الرحالة” تكره أن تكون محاصرة في الحياة المنزليَّة وتتوق إلى الخروج إلى الطريق دائماً.

في الواقع أنَّ كتباً من هذا النوع تجعلني أتساءل من بين تساؤلات كثيرة هل بذلنا، كروائيين وقصاصين، وحتى كفنانين، ما يكفي من الاهتمام بامتدادنا التاريخي والجغرافي سواء في البريَّة أو الهور، بثيمات وتمثلِ شخصيات من ذاكرة هذا الامتداد وتحويله إلى عمق منجمي سردي؟ لكنَّ هذا موضوع آخر.

المقال إعداد لعروض من ملحق التايمز الأدبي

والعنوان من وضعنا