عقدٌ ذهبيٌّ من ازدهار الفنون والثقافات

منصة 2023/06/11
...

  يقظان التقي    

يقام في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة (16 مارس/ آذار – 5 أغسطس/ آب)، معرض {بيروت الستينات: العصر الذهبي}. ويضمّ المعرض 230 عملا فنيَّاً لـ 37 فناناً لبنانياً وعربياً، جسدوا في أعمالهم فترة ازدهار المدينة بين أعوام 1958 وبداية الحرب الأهليَّة عام 1975، كما يضمُّ 300 وثيقة أرشيفيَّة تمَّ جمعها من 40 مجموعة مقتنيات حول العالم.

المعرض البيروتي يتتبّع فترة وجيزة، لكنّها غنيَّة بالاضطرابات الفنيَّة والسياسيَّة، ويبحث العصر الرومانسي في عاصمة لبنان، كما مثلت عقدا من الازدهار الثقافي والفني في العالم، غنيا بالإبداعات وتفجر المراحل الفنيَّة على المستويات كافة، في الشعر، والأدب والرواية، والمسرح، والسينما والموسيقى، والتشكيل، والثورات الشبابيَّة/ الجامعيَّة، والاجتماعيَّة".

يقدّم المعرض لمرحلة مزدهرة من تاريخ المدينة الحديث، مركّزاً على أعمال الرعيل الفني اللبناني الثالث بعد جيل الثاني، والرواد المؤسسين الأوائل. شهد عقد الستينات تدفقًا فنيًّا في مجالات متعددة.

عرف لبنان فنانين تشكيليين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأبرزهم حبيب سرور وداوود القرم ويوسف الحويك. وتبعهم جيل ثاني من بين ألمعهم مصطفى فروخ وصليبا الدويهي وعمر الأنسي ورشيد وهبي. وكان لتأسيس الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا) إن خرجت رعيلاً ثالثًا سيبرز في الستينات، فضلًا عن الذين درسوا في دول أوروبا، ومن بينهم شفيق عبود وجان خليفة وسعيد عقل وعارف الريّس وبول غيراغوسيان وحسين ماضي. والظاهرة الملفتة آنذاك افتتاح قاعات العرض المتخصصة (الغاليريهات) مثل: غاليري شاهين وأجيال وفنون وغاليري وان، وبرزت أسماء رعاة الفن التشكيلي مع جانين ربيز وسامية توتنجي ويوسف الخال وغيرهم. وأصبحت المعارض الفنية جزءًا من الحركة الثقافيَّة في لبنان والمنطقة العربيَّة.

كما يقدّم المعرض من الأعمال الفنية الواسعة والمواد الأرشيفية، وجهات نظر جديدة حول فترة محوريَّة بيروت والفنون الديمقراطية في تعبيراتها كمجتمع تعددي/ مفتوح، وغير مغلق على التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة. لمدينة تختبر ذاتها، وتجترح حضورها التصادمي حتى في أوقات الشدّة والأزمات والحروب.

يأتي ذلك في تعبيرات العمل الفني المتعدّد الوسائط، لكلّ من جوانا حاجي توماس وخليل جريج، وهو يلقي الضوء على الآثار، التحويليَّة للعنف على الفن والإنتاج الفني، فضلًا عن تأثير الشعر في مواجهة الفوضى.

أصارت بيروت الستينات المجتمع الثقافي المختلط، الوجهة للعديد من المثقفين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع اندلاع الثورات والانقلابات والحروب في هذه المناطق على مدى العقود الثلاثة التالية، استمر ازدياد عدد المتورطين بحب بلد ملجأ حريات كل النوازع التعبيريَّة  الحرّة. 

ويربط المعرض تلك المرحلة المزدهرة بقانون السريّة المصرفية اللبناني عام 1956، "الذي منع المؤسسات المالية من الكشف عن هوية العملاء أو أصولهم، إذ تدفّقت رؤوس الأموال الأجنبية إلى المدينة، وازدهرت المعارض التجارية والمساحات الفنية المستقلة والمتاحف، وكانت بيروت تضجّ بالناس والفرص والأفكار، ومع ذلك، تفجرت حرب أهلية عنيفة  استمرّت خمسة عشر عاماً".

وتعود الأعمال المشاركة في المعرض إلى الفنانين: فريد عواد (1924 - 1982)، شفيق عبود (1926 - 2004)، إيتيل عدنان (1925 - 2021)، ألفريد بصبوص (1924 - 2006)، رفيق شرف (1932 - 2003)، بول جيراجوسيان (1926 - 1993)، عارف الريس (1928 - 2005)، سلوى روضة شقير (1916 - 2017)، هيلين الخال (1923 - 2009).

كما يضم المعرض أعمالاً لفاتح المدرّس (1922 - 1999)، جوليانا سيرافيم (1934 - 2005)، سيسي سرسق (1923 - 2015)، عادل الصغير (1930 - 2020)، نيكولاس عبد الله مفرّج (1947 - 1985)، محمود سعيد (1897– 1964)، منى سعودي (1945 - 2022)، جان خليفة (1923-1978) هوغيت غالان (1931 - 2020)، خليل هاشم السامارجي (1939) وآخرين.

يدير المعرض كلّ من اللبناني سام بردويل، والألماني تل فيلراث، مديرا "هامبرجر بانهوف"، المتحف الوطني للفن معاصر في مدينة برلين منذ عام 2022. وقد أسّسا معاً منصّة لتنظيم المعارض الفنية متعددة التخصّصات "artReoriented"، التي أطلقوها في نيويورك وميونيخ عام 2009.

وترتكز الممارسات التي يقوم بها بردويل وفيلراث على الفن العالمي المعاصر ومجال الحداثة الكلاسيكيَّة. وقد شغلا مناصب تعليميَّة في جامعات مختلفة، وعملا أخيراً على تنظيم الدورة السادسة عشرة من بينالي ليون للفن المعاصر، تحت شعار "هشاشة العالم". 

 وهما أكاديميان وقيّمان فنّيان مستقلان، أسّسا منصّة التقييم الفني "آرت ري أوريانتد"، ومقرّها ميونخ ونيويورك، ويديران "هامبرغر بانهوف"، المتحف الوطني للفن المعاصر في برلين.

المعرض إذ يُسلط الضوء على وقت شهد اضطرابًا في تطوّر الحداثة في بيروت، بدءًا من أزمة لبنان عام 1958 وانتهاءً باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. 

يتضمّن أيضا أعمالاً لعدد من الفنانين العرب الذين أقاموا فترة في بيروت واخبروا لغتهم وأدواتهم التعبيرية مع الحالة الثقافية فيها، ومنهم السوري فاتح المدرس (1922 – 1999) الذي رسم لوحات عدة تمثّل الحرب الأهلية ومشهد المقاومة والنزوح من الجنوب اللبناني، والعراقي ضياء العزاوي (1939) الذي أقام معارض في العاصمة اللبنانية خلال السيتينيات والسبعينيات، ووثّق العديد من الأحداث فيها خاصة لوحته "صبرا وشاتيلا" في تسجيل لمذابح المليشيات المسيحية والاحتلال الإسرائيلي للمخيم الفلسطيني غرب بيروت، وكذلك منحوتات الأردنية منى السعودي (1945 – 2022) التي انضمت إلى قسم الفنون في منظمة التحرير الفلسطينية بلبنان وأصدرت ملصقات سياسية وكتباً مصورة للعديد من الكتّاب بعد عام 1969، إلى جانب أعمال المصريين محمود سعيد (1897 - 1964) وجورج دوشي (1940 - 2018) والعراقيين هاشم السمرجي (1939) ومهدي مطشر (1943) والفلسطينيين بول غيراغوسيان (1926 - 1993)، وجمانة الحسيني (1932 - 2018)، وجوليانا ساروفيم (1934 - 2005). 

زمن من الحنين في مناخ فني في إحدى الرسائل التي تنشرها بيروت، يستعيدها. ليس مجرد حكاية - تدفق في التجريب والتجريد والحداثة لفنانين وفنانات شجعان، شكلوا خروجا على الجروحات والانكسارات والايديولوجيات المتعثرة. وعكسوا أهمية الفن التجريدي في لبنان، وفضاءاته الطليعيَّة والتقدميَّة. هناك فنانون حقيقيون في لبنان، تذوقوا الفن الإيطالي أو الفرنسي أو الهولندي، أو الروسي، أو الالماني... كانت هذه السنوات في بيروت، السنوات الكبيرة (1960 - 1970)، يستعيدها المعرض القطري. كل هذا الجمال والحنين بين زمنين وبيروتين، وعالمين على وشكل التفكك والتفرقع والانهيار. لحظة فنيَّة، انبعاث لزمن ولغة أدخلت الجمال والشعري في الحياة اليوميَّة في كل العالم، من أسماء، قدمت أنفسها شبابا، نجحت في جذب الانتباه اليها، استعادتها في مدى إبداعاتها المرئية، الاتصال بنفسها المنفتحة على قيم وأفكار العالم الذي تتمناه، وأحيانا في مواجهته وصعود أشكال من العنف والغرائز الصماء، وكثير من الموت والتخريب، بإصابات عميقة في الألوان التي يمكن أن توقظ المجتمع بأحلامه الاجتماعيّة، رؤيا العالم التي يمتلكها هؤلاء وفتحت طرقات عرفتها الحداثة الفنيّة العربيّة، كل بلغته وتعابيره وقيمه وايحاءاته وسحره ومفرداته التعبيريّة وجمالياته.