الحمــــار بألـــف وجـــه فــي فيلـــــم جيرزي سكوليموفيسكي

ثقافة 2023/06/12
...

  باسم سليمان
هذا العنوان يحيلنا إلى كتاب جوزيف كامبل، البطل بألف وجه، الذي يدرس فيه ثيمة البطل في الثقافة الإنسانية، لكنّنا، هنا، لا نتهكم، بل ننبّه على أن ثيمة الحمار في القصّ الإنساني، قد تبدّت بألف صورة، استطاع الحمار فيها أن يخرج من إطار مقولة: "كحمار يحمل أسفارًا "
إنّ مسحًا سريعًا للتاريخ، يظهر لنا، كم هي كثيرة السرود التي تناولت موضوعة الحمار؛ من الحمار الذهبي، لِلوشيوس أبوليوس، مرورًا بحمار جحا، إلى معضلة الفيلسوف جان بورديان، عندما اتخذ من الحمار مثالًا يناقش فيه حرية الإرادة، و(دابل) حمار سانشو الذي وصفه بأنّه: "ابن أحشائه، وفرحة أولاده، وغبطة زوجته، وأنّه يكسب من المال ما يزيد عن علفه" وصولًا إلى (بنيامين) الحمار في مزرعة الحيوان، والحمار (بالتازار) بطل فيلم المخرج الفرنسي روبير بريسون وغير ذلك الكثير.
يأتي فيلم المخرج البولندي جيرزي سكوليموفيسكي  "EO" لعام 2022 الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم في مهرجان (كان) مصوّرًا قصة هروب الحمار EO، بحثًا عن مدرّبته في السيرك، التي كانت تحتفل بأعياد ميلاده، وذلك بأن تعدّ له كعك الجزر؛ ليضيف إلى ثيمة الحمار أبعادًا أخرى، فحمار سكوليموفيسكي بقدر ما هو سليل تلك القافلة من الحمير ذوات الحمولة الثقافية التأويلية في تاريخ الثقافة الإنسانية، إلّا أنّ حماره لا تعنيه لعبة الأقنعة، بل كثيرًا ما ينهق أمام هذا التل من التبن الثقافي الذي يجب أن يعلف به.
كان EOيعيش في فردوسه مع مدرّبته التي تحبه في السيرك، حيث يقدّمان فقرة يتعرّض فيها EO للإغماء، فتنقذه عبر التنفّس الاصطناعي، لكنّ السيرك يفلس، ويصادر الحمار. ومن ثم تهتم به جمعية تُعنى بحقوق الحيوانات، وتقيم تظاهرات ضد العنف المسكوت عنه تجاه الحيوانات. يُرسل الحمار إلى مزرعة تُعنى بأحصنة السباق، وفي الطريق يرى الأحصنة تجري بحرية يفتقدها. وعندما يتم افتتاح المزرعة باحتفال، يزيّن الحمار بإكليل من الجزر، لكن بعد قصّ الشريط، يُترك خارجًا، بينما يدخل الحشد المحتفل إلى الداخل، واحتجاجًا على ذلك يقضم جزرة من إكليله، رافضًا مكر الإنسان الذي يدفع الحمار للتحرّك إذا حرن، وذلك بأن يقدّم له جزرة تظل أمام فمه، لا يطولها، مهما سعى. يعمل EO في المزرعة ويحسد الأحصنة، لكنّه مع الوقت يكتشف بأنّها لا تقل عبودية عنه، فيهرب وفي طريقه يدمّر الخزانة التي تحوي الكؤوس والنياشين، التي حازتها الأحصنة في السباقات، فما نفعها إذا كانت أحصنة السباق عندما تهرم تكافأ برصاصة.
يُقبض عليه ويرسل إلى مزرعة أخرى، حيث يلاعبه الأطفال، لكنّه حزين يحلم بمدربته. وفي عيد ميلاده تأتيه لتحتفل معه، لكنّها لا تستطيع البقاء معه، فيقرّر أن يهرب ويبحث عنها.
كانت محبة الحمار لمدرّبته، هي الدافع لثورته وهروبه بحثًا عنها، لا لأفكار طوباوية يتلبّسها. وفي الطريق إليها يكتشف كذبة احترام حقوق الحيوان، وكم هو قاسٍ عالم الإنسان، وغير مبالٍ في جوهره، وأنّ الرأفة الظاهرة مجرد قناع يختفي تحته عنف كبير، فمن مجزرة الثعالب التي رآها في الغابة، إلى تحطيم أطرافه من قبل مشجعي فريق كرة القدم المهزوم، بعدما عدّه الفريق المنتصر فأل حظه، فأخذوه للاحتفال. وهناك يتعرّض للضرب من قبل مناصري الفريق المهزوم، فيرى كابوسًا عن حيوان آلي يجوب الشوارع. وما إسعافه إلى مشفي الحيوانات، ومن ثم العناية التي نالها من قبل البياطرة، إلّا سببًا ليجرّ عربة الخدمة في المستشفي، لكنّه يرى العنف الممارس على حيوانات المخابر، وفي لحظة غضب يرفس سائسه الذي يعذّب الحيوانات، ويهرب.
يعتبر سكوليموفيسكي من رواد الموجة الحديثة في السينما في الستينات من القرن العشرين، ولقد ترك بصمة كبيرة عبر مجموعة من الأفلام نال عنها الجوائز من مثل: المغادرة/ الدب الذهبي، ونهاية عميقة/ جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، وغير ذلك. وبعد هذا التاريخ  قرّر سكوليموفيسكي، وهو في الثمانينيات من عمره، أن يجعل من عيني الحمار عدسات كاميرته، لربما لأنّ البطل الإنساني لم يعد بطلًا، ولم يعد قادرًا على تمثّل أوجهه، كما عند جوزيف كامبل.  تنتهي قصة EO مقادًا ضمن قطيع من البقر إلى حظيرة أخرى، نأسف ونحزن لذلك، ولربما لو كان هناك إنسان في مكانه، لما حزرنا ردّة فعلنا! ولربما كانت أحد أوجهها: اللامبالاة، لكن كما عوّدنا EO، سيهرب من جديد بحثًا عن مدربته وحرّيته! لقد صوّر سكوليموفيسكي فيلمه من خلال عينيّ EO وبالكاد مرّت بعض الجمل في الفيلم، فما حاجة الحمار لها، وكثيرًا ما كان ينهق بمقابل الكلام البشري.                        
بقدر ما كان فيلم" Eo" رثاء لحال الإنسانية، فقد كان دعوة للعودة إلى الطبيعة، فما زال الحمار قادرًا على اكتشاف أسهل الطرق في المتاهة البشرية كي يقودها إلى نور ما. ألم يكن تاريخيًا هو المهندس الأول للطرق!