سيميائيَّات المرئي

ثقافة 2023/06/13
...

 عبد الغفار العطوي

يقال إننا لا نرى العالم المرئي إلا كونه صورة واحدة، وإن الحقيقة التي نعتقد أننا نلمسها في وعينا هي عبارة عن صورة مكررة مع تفاصيلها، والثبات البارمنديسي والتغير الهيرقليطي هما عبارة عن تحولات الوجود الفردي في الصورة المرئية بين الضوء والمعنى، ولعل جاك فونتاني يطلعنا في كتابه (سيمياء المرئي) على الجانب المرئي في فهمنا للسيمياء، في تلاقي الضوء بالمعنى بوصف الضوء ظاهرة غير لغوية.

فتنشأ لدينا قدرة على الفهم والتفسير، أي أن الفكرة الأولية التي تكمن في التعامل مع المرئي كمواضعة لا، كـ (لا لغة) مع وعينا، يمكن أن تبدو مراهنة مستحيلة، فهي تتساءل إذا كان البعد التشكيلي للعالم المرئي يمكنه الدلالة على شيء مستقل عن مضامينه الأيقونية والسردية والموضوعاتية، بمعنى أن تحقق المعنى الذي يمكننا بتصورنا فهمه ومن ثم إدراك محتواه لا يتحقق إلا بدراسة سيميائيته المرئية على كشف وتحليل العلاقة بين الضوء والمعنى، لندرك ما أهمية مساهمة الضوء في تجليات الصورة، حيث تعد الصورة تمثيلاً بصرياً لشيء أو لكائن أو لمنظر من الطبيعة، إنها محاولة في الظاهر على محاكاة العالم الخارجي، والقول في الظاهر مبعثه التصاق وعينا بالمحفز المكون للصورة (كآلة التصوير الفوتوغرافية) لكن في الحقيقة إن المرء لا يدرك، ولا يمكنه ادراك إن أصل الصورة هو الضوء، وربما تبدو الصورة نفياً في العتمة ظاهرياً، بيد أن التخيل يكسبها نوعاً من المصداقية، حيث نحن نصدق كل ما نراه في أحلامنا لأن أصلها من الضوء المقبل من تفسيرنا للمعنى، ولا يمكن القول إنّها حقيقة مجازية (أضغات أحلام) نستسيغها مجبرين من كونها من مكملات الصورة الذهنيّة التي تشكل حقيقة وجودنا في العالم، فإذاً لماذا الصورة؟ لقد اشتقت الصورة كمصطلح في جوانبها البصريّة الوصفيّة من علم البيان بكيفيات صناعة المعاني، فلا  صورة من دون معنى، وأسس لها المعنى بناءً على ادراك الوعي من كون الصورة الذهنيّة هي من لزوم فهمنا، وإن هذه الصورة توصف من اعتبارها صورة سرديّة، ماثلة بين التشكل والتلقي، ويقتضي وفق ذلك الكشف التحليلي عن الملمح البصري للصورة السرديّة بناءً على تأطير النص ككل دال، أي أن تتحول نحو صورة سرديّة مرآوية  ترتد في الفضاء عبر بنية لفظية موحدة، لذلك نشعر بأننا ننشئ عالمنا من الصورة الذهنيّة على شكل تردد سردي، كإنّما نحن نعيش العالم من خلال صورة سرديّة تواجه عين النص وعين الذهن، أو كما يقال في المأثور نحن نعيش في حلم طويل، لكنه معاد برتابة من دون الوعي بناستالوجيته الميتافيزيقية في مفهوم جاك دريدا، أو مثل السرد الحداثي الذي لا يكلف جهده في نفي إعادته للواقع بنقله، إنما ينتج أشكالاً نصيَّة، كل ما يتطلبه في هذا الأمر لا يتعلق بمشروع كتابة سردية إنما بمشروع أشكال سردية قيد التشكل دوماً، وهذا يعني أن تلعب الصورة في حياتنا مثلما يؤدي الضوء مهمة سلبية في الآثار الدلالية من حيث أن الخصائص المادية للضوء (البريق واللون والاشباع) لا تصفى وتصبح أصنافاً تنتمي إلى مستوى المضمون. ومن ثم لا تصبح سيميائيّة إلا في فصل الابلاغ الذي يبنيها، لذا يمكننا أن ندرك الفعالية التصويريّة للمرئيات في حياتنا عبر سيميائيّة التوتر الذي يشعرنا في إننا تحت عالم الصورة خاصة إن تدخل المكان بوصفه صورة متخيلة. وهذا من غرائب التقاء الخيال بالمكان لوحديهما على انفراد الذي عالجها جاستون باشلار للمكان بوصفه صورة فنيَّة متخيلة، وكان طرحه مغايراً لفكرة المكان في ما هو معروف في الفكر الفلسفي، باعتبار أن مفهوم المكان يتعدى الخصائص الماديّة للموضوعات الواقعية التي رسّختها الفلسفات الكلاسيكية، من خلال إنّها تؤكد على حقيقة الواقع من كونها تتجلى لدى الفلسفة الواقعيّة من تحديد حقيقة الموضوعات، رؤية باشلار الفلسفيّة اختلفت في الأخذ بشاعريّة المكان، في مستوى أعمق للمكان، التحدث عن فكرة التخيل، الحقيقة التي تسمو بوعينا، في الذاكرة والسكنى فيها كذكرى متأصّلة في إن المكان هو عبارة عن فكرة متخيلة، لكننا يجب مراعاة أن الصورة في لفظها القاموسي تمثل عياناً أمام العين، مثلما يجب الانتباه نحو تطور استعمالها في اللغة والفلسفة، لمن يحاول الاعتراض أو التغاضي عن العلاقة الدقيقة المثمرة بين اللفظي والبصري، والتحقق من أن الصورة هي علامة بصريّة ذات طبيعة تعريفية. ومن ثم أنّه بإمكاننا فهمها في حيز تام الاستقلالية بشرط أن تمتلك المعنى وتؤشر على جملة إحالات، ففهم الصورة بهذا المنحى الكلي الذي يصبح مؤهلاً كي يفترض بيرابا من وجهة نظر سيميائية معرفية بخصوصه هو أن الصورة الذهنية سيرورة ثلاثية!، وإن التعدد المرتبط بالصورة قبل ان يتجلى دلالياً هو تعدد على مستوى ميكانيزمات التلقي، أي أننا نفهم العالم بالمعنى البصري في الذهن، وتترجمه العين على تشكل نصي تخيلي بصري.  ما نراهُ هو حقيقة الصورة بالسيرورة المتحولة لفضاء ثلاثي الأبعاد، أما عين النص التي هي في الحقيقة الفاعلية التصويرية للصورة الذهنية، فإنها تتعامل مع الذاكرة من جهة استعادة التوصيف السردي للصورة، من جهة قيام الوعي الذي تحركه الذاكرة بإضفاء الصدق على حقيقة العالم الصوري.