انحرافات القراءة الغربيَّة للتراث الشرقي

ثقافة 2023/06/14
...

د. سعد عزيز عبد الصاحب

في افتتان الغرب بالمسرح الشرقي والعلاقة بين الثقافة والمسرح من خلال مفهوم المثاقفة تتبدى أمامنا عديد الأمثلة والطروحات التي نسجت أواصر تلك العلاقة بالمسرح الخاص بالثقافات المغايرة الغريبة عنه ، وعلينا أن نُسلِّم بأنَّ المسرح هو فن غربي بامتياز نصاً وممارسة لكنه استنفد أغراضه الفكرية والجمالية في بدايات القرن العشرين فالتفت المسرحيون الغربيون إلى الشرق بفواعله الطقسية والاحتفالية لتجديد جسده وبثِّ الروح فيه ونشير في هذا السياق إلى تطلُّع كلٍ من (بريشت) و(ارتو) إلى الشرق بحثاً عن نماذج تكون بمثابة بديل لسيادة الممارسة المسرحية الغربية (الأرسطية) ..

 ولكني أتساءل ما مدى عمق إفادة المسرح الغربي من الجانب الجوهري في المسرح الشرقي أو من طقوسه وما هي الرؤية التي استند إليها في استلهاماته في كلٍ من أمثلة (بروك) و(جروتوفسكي ) و(شيشنر) و(لونيه بو)؟؟ واستثني من ذلك الممثل والمخرج الروسي (مايرهولد) لأنه ينتمي لثقافة شرقية وقريب من روحها في معالجاته المسرحية وخصوصاً في تجلِّيات الممثل الصيني لديه وتأثره بمبدأ (الأسلبة) والفرجة والتجريد الحركي والروحي الشرقيين ، يصف (يوجينو باربا) نظرة الغرب إلى المسرح الشرقي بأنها (نظرة منحرفة) لكنها مُضمرة وغائرة غير متجسدة إلا لمن يعي ويفهم ما أخذه الغربيون من الحواضن الشرقية وحرفُّوا مسار السياق الثقافي الذي تشكَّلت فيه هذه الطقوس والممارسات الاحتفالية الشرقية ، وعلى الرغم من هيام الغرب بالمسرح الخاص بالثقافات المغايرة الغريبة عليه ، نعتقد أنَّ ثمة أسباباً أساسية لتقبُّل الجمهور الغربي للمسرح القادم من ثقافات أخرى إذا ما قُدِّم في سياق مسرحي غربي يلخِّصها الناقد العراقي (عواد علي) (في أنها تتصل بطبيعة الثقافة الغربية المتمركزة حول ذاتها ، أو أنموذجها المشبَّع بايديولوجيا التفوق الثقافي التي تتمظهر في أنماط عديدة من المواقف والممارسات والتعبيرات النرجسية المتعالية ) ويخفي ويبطن الفنانون الغربيون تحت أساليبهم الفنية نزعات استشراقية وبراغماتية تنبع من أصل كولونيالي ، وعملت الفرق المسرحية في انتاجها لعروض مسرحية نابعة من ثقافة مغايرة بعد تطعيمها بدوال وشفرات غربية تنتهي حتماً إلى خلق مُنتجٍ ثقافي مختلف يفهمه المتلقّي الغربي لكنه سيُفضي أيضاً إلى تقديم دلالات غريبة على جمهور الثقافة الأصلية الذي تعود إليه مادة العرض ، كما يستعصي على فهمه ، ومن وجهة نظر غربية نرى أنَّ استثمار هؤلاء المسرحيين الغربيين لما يمكن نعته بالممارسات الطقوسية يشكِّل نوعاً من التقاء الثقافات وتمازجها بمفهوم معاصر (التناسج الثقافي) الذي خرجت به علينا الباحثة الألمانية (اريكا فيشر ليتشه) وفي الجانب الآخر تقف هناك رؤية شرقية مغايرة تماماً تعلن عن فضحها السافر للقراءة الاستشراقية الغربية تتمثل بطروحات الناقد الهندي (رستم بهاروشا) في كتابه المعروف ـ المسرح والعالم : الأداء وفن السياسة الثقافية ، ترجمة أمين حسين الرباط ـ يفكك فيه أعمال المخرجين وصنَّاع العرض الغربيين الذين اتصلوا بالفواعل الطقسية الشرقية كـ(ارتو) و(بروك) و(جروتوفسكي) و(شيشنر) وتركيزه في نقده لهم على ما يسميه بـ(أخلاقيات العرض) التي تكمن وراء أي تبادل ثقافي والعلاقات الاجتماعية التي تؤسسه ، فهو يجد أنَّ الاتجاه السائد في انتاج تلك الأعمال يفصل بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية بأساليب مُضمرة تخفي تحت قشرتها الخارجية نزعات مركزية غربية ويضرب مثالاً على ذلك بأنَّ نصاً هندياً مقدساً يدعى (شاكونتالا) الذي يعد مصدر الكثير من الغموض والحكمة الرومانسية واللطف الهندي، يُفّرغ من محتواه وجماله الفلسفي وسياقه الاجتماعي بل الأسوأ من ذلك أن يجرَّد الأداء التقليدي من صلاته بحياة الشعب الذي تُقدَّم هذه العروض من أجله ، ويقرر (بهاروشا) في ضوء رفضه الحاد لهذه الأخلاقيات (أنَّ من أكثر الأشياء إهانة للمسرح هو تحويل احتفالاته الفطرية إلى مستودعات من التقنيات والنظريات ) ويدعو كلَّ من يهتم بالتبادل الثقافي بين الحضارات إلى ضرورة (معرفة ما يمكن أن يعيد النص إلى شعبه الأصلي قبل عمل أي نظريات عن أي أداء تقليدي) وفي ظل المناوبة الحضارية ما بين الثقافتين شرقيها وغربيها في إطار من الصراع الثقافي المستمر نجد بلا مواربة أنَّ توظيف النص الشعبي والطقسي الشرقي من قبل القراءة الغربية كان في أعلى تصوُّراته الجمالية والفكرية فيما دوَّنه (بريشت) في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) في ضوء الحكاية الصينية وقراءته الراصدة للتحولات الاجتماعية والتاريخية من منظور ماركسي من دون تحريف القراءة الأصلية للحكاية ، إنما بجعلها طرساً يتكئ عليه في اجتراحه لنظرية المسرح الملحمي التي دعا إليها واكتشاف تلك المسافة بين الممثل والشخصية بين السرد والسارد طالباً من المشاهد أن يكون بينه وبين ما يمثل أمامه مسافة وهي ما سمّاه بريشت أثر التغريب أو الإغراب أي أن يكون الممثل غريباً أو بعيداً أو على مبعدة أو مسافة من الشخصية والغرض من هذا الإغراب أن يقف كلاهما (الممثل والمشاهد) موقفاً موضوعياً من المسرحية ، وهي تقنية من تقنيات عمل الممثل الصيني والعزل الذي يقوم به بين الشخصية وذاته لتنمية الجوانب العقلية لدى المتلقي، وحتى في العودة إلى شواغل الرومانتيكيين الفرنسيين اللذين امتازوا بالشطط العاطفي والمبالغة والخيال الجامح والحوار الغنائي وحرصهم على إظهار اللون المحلي وجدوا في (الليالي العربية)ما يستجيب ويتوافق مع اتجاههم الأدبي والفني في مرحلة تاريخية معينة ـ القرنين 18و19ـ بمعنى آخر أنَّ التكوين الاجتماعي للمجتمعات الغربية خلال ظهور وانتشار (الرومانتيكي) قد ساعد المتلقّي ورجالات المسرح الغربي على تذوُّق موضوعات وثيمات مسرحية مستوحاة من (الليالي) مباشرة أو محاكاتها بمضمون وأسلوب إخراجي متشابه يحلِّق بعيداً في عالم العفاريت والجان والسحرة والمكائد وقصص الغرام والمغامرات من منطلقات (واقعية)(رعوية) وتم تحويل الأشكال والأنساق العجائبية من هدفها التراجيدي التطهيري (الأخلاقي) النبيل في (الليالي) إلى هدف رومانتيكي يثير السخرية والضحك مبتدعاً لمواقف غرامية وكوميدية ومفارقات هزلية انتقاصاً ونيلاً من الحكايات العربية كما في مسرحية (حلّاق إشبيلية) للفرنسي (بومارشيه) المقتبسة عن حكاية (مزين بغداد) وكذلك مقاربة الألماني (شيللر) لحكاية الجارية تودُّد في الليالي العربية بنص مسرحية (توراندوت) إذ يحوِّل الجارية العربية الذكية واللمّاحة في حلِّها للألغاز وسيادة الجانب العقلي والتنويري لديها إلى أميرة مُتعنِّتة عُصابية تقتل الخُطّاب اللذين يتقدمون لخِطبتها وتعلِّق رؤوسهم على أبواب المدينة وأبراجها بعد أن يعجزوا عن حلِّ اللغز ، في حين أنَّ الحكاية العربية تمجِّد دور المرأة في المجتمع وإبقاءها على حياة الليالي مستمرة من خلال (السرد) والحكي الذي يطرق أسماع شهريار كي تُدام الحياة وتستمر ويقلع الأمير عن ساديِّته الدموية .