فيلم الحوت 2022 The whale عن الهوس والانتقام

ثقافة 2023/06/14
...

فدوى العبود

من أين يولد الهوس، وكيف يمكن تمثّل لحظة انبثاق فراشته السوداء من شرنقة الظروف؟
بسبب إخفاق علاقة غراميَّة يغامر بطل ديدرو في رواية جاك القدريّ بالانضمام لفريق خيالة استعداداً للحرب التي ستكلفه عرجًا طوال حياته، الهوس أيضًا سيدفع دون كيخوت لتنصيب نفسه فارساً جوالًا مكلفًا بنشر العدالة.

في الصفحات الأولى من رواية موبي ديك 1851 لهرمان ملفل، يُخبرنا الراوي إسماعيل بأنه كلما سيطر عليه السواد يركب البحر بأقصى ما يستطيع؛ يمكن قراءة موبي ديك على عدّة وجوه لكنَّ فكرتها الأهمَّ تتصل بالهوس الإنسانيّ الذي يُردي المرء في النهاية والهاوية معًا والذي يعكسُ رغبةً عميقة بالفناء والتلاشي.
إنَّ المعاني العميقة وبالغة الدلالة لهذه الرغبة في موبي ديك تُستعاد في فيلم الحوت 2022 الذي يعدّ امتداداً لرؤية المخرج الأميركي دارين آرنوفسكي والتي عكستها أغلب أعماله التي تنتمي لسينما المؤلف باعتباره كاتبًا ومخرجًا لها ومنها: (قداس من أجل حلم2000، النافورة 2006، البجعة السوداء 2010، الأم 2017).
تنشغل سينما آرنوفسكي بالسؤال عن الحياة والموت، وباعتباره باحثاً في التوراة تشكل الرؤية الدينيَّة خلفيَّة لأغلب أعماله، لكن ضمن فهم جديد يخرج عن تصور الديانات الثلاث؛ ما يعرّض رؤيته للرفض من أكثر النقاد والمتابعين لأفلامه السوداويَّة التي تقوم في جوهرها على تحرّي أشكال فقدان الذات كالهوس والمغامرة والإدمان وعبوديَّة الحواس وهذه الثيم هي عصبُ رؤيته وفلسفته للصورة التي يقدمها مقربة للجسد الإنساني في إيماءاته وسكناته وتنهداته، وتتمثل براعة سينما آرنوفسكي في أنه يعرض منظورًا فلسفيًا عبر مدخل نفسي، يقوم من خلاله بالضغط على المشاهد من خلال كادرات قاتمة وشخصيات سلبيَّة لكنها مثيرة وجذابة.
يحكي فيلم الحـــــــوت قصة رجل يُدعى تشارلي وهو مهووس بالطعام الذي لم يكن في حالته سوى شكل من أشكال الهرب.
وبموازاة هوس إهاب بالانتقام من الحوت الذي يدعى موبي ديك/ هوس تشارلي بطل الفيلم بالطعام.
إنَّ الخواء الأبيض الذي يقود بطل موبي ديك لملاحقة حوت أعمى، هو ذاته الذي يقود تشارلي؛ لكنَّ الصراع الآن أصبح عميقًا: هو ذا رجل غلبَه الحزن، فقرّر الهرب على طريقة الحيتان التي تنتحر برمي نفسها على الشاطئ؛ أغلق باب شقته وعاش كحيوان منبوذ يتضخم شيئًا فشيئًا لعجزه عن مواجهة الحقيقة التي يجسّدها الماضي.
 لقد تعرّض لصدمة عاطفيَّة مريرة تمثلت في استسلامه لحبّ مرفوض ومنبوذ مجتمعيًّا/ إلى جانب معاناته من أزمة هويـــّة/ دفعته ليتخلى عن زوجته وابنته لأجل هذا الحب الذي فقده لاحقًا فقد عانى من شعور بالرفض والنبذ.
وعلى مدى ساعتين من الزمن، وفي حيز ضيق، وبكادرات بصريَّة قاتمة ترصد كاميرا آرنوفسكي عمليَّة انتقام مرير يمارسه تشارلي على جسده الشبيه بجسد حوت.
 هذا وتعبر الصورة البصريَّة والحيز الضيق الذي يتحرك فيه جسد تشارلي الضخم عن شخصيَّة سلبيَّة تضغط على المشاهد الذي قد يرفضها؛ لكنه لن يستطيع منع نفسه من إغراء ملاحقة تفاصيل حياة البطل، من ثم التماهي مع هوسه وقلقه، فالألوان الكئيبة وإثارة التقزز المتعمد تعدّ كلها من ضمن المميزات الخاصة لسينما آرنوفسكي ويعتبر الحوت تمثيلاً دقيقًا لها؛ لذلك يستخدم من أجل هذا الغرض-إلى جانب الكاميرا المحمولة- كاميرا أخرى مثبّتة بجسد الشخصيَّة ترصد أدقَّ تعابيرها.
 إنَّ السؤال الأساسيّ الذي طرحه هرمان ملفل عن فظاعة الانتقام يرتد- في فيلم الحوت- ليصبح صراعًا بين (الجسد والروح. القسوة والندم). ولا وسيلة لحلّ الصراع سوى بالتهام المزيد والمزيد من الطعام في ما يبدو أشبه بانتحار بطيء.
إنـــّه كبطل موبي ديك يشعر بالخزي والرغبة بالانتقام من هذا الجسد، محبوس في شقته لا يغادرها، حتى أثناء إعطائه دروسه عبر الإنترنت بحيث يحرص على إغلاق الكاميرا الخاصة به متخفيًا عن نظرات الآخرين، مجسّداً عبارة والت ويتمان في أوراق العشب: أنا مجرد استعارة.
إنَّ أنا تشارلي رهينة لما يتملكها ويشكلها: (هوس الانتقام المتكون من الذنب والقسوة)
 وأنا تشارلي تختبر إلى جانب ذلك الخواء من فقدان ويبدأ المشهد الأول بظهور المبشر الشاب، في اللحظة التي يصاب فيها تشارلي بأزمة قلبية، وهو يريد أن ينقذه عبر الدين مدّعيًا أنَّ رسالته هي رسالة أمل لا اعتناق، لكن تشارلي/ الحوت الضخم لا يريد أن يسمع عن هذا الأمر.
وتمثل ليز وهي المرأة التي تعتني بتشارلي (الخادم للجسد)، أنَّ ما تحاول تقديمه له هو الوجبات والكثير منها، وكرسي متحرك، وجهاز قياس للضغط. وهي تطرد المبشر وترفض فكرة إنقاذه عبر الإيمان، إنَّ ليز واقعيَّة كالعلم الحديث وهي تخبره بمنتهى الهدوء :”تشارلي لا تناسبه خطط الرب، إنه يحتضر ويحتاج لشخص ينقذه”.
 لقد فقدت أخاها بسبب قسوة رجال الدين، وهي لا تهتم سوى بقياس النبض ومراقبة الجسد، لكن الروح معطوبة فمن ينقذها؟
يخفق كل من المبشر الديني وليز في إنقاذ تشارلي إلى أن تظهر ابنته في مشهد عنوانه: يوم الثلاثاء، إنها تعاني كوالدها من الرفض والتمرد، كانت غاضبة لأنه هجرها ووالدتها، تتصاعد حدة التوتر والقلق في حواراتهما التي يبدو فيها تشارلي الطرف العاجز والضعيف، لكنه يحاول التكفير عن ذنبه بتحريرها من الغضب والخيبة وحين ينجح يتحرر هو الآخر.
وبهذا يقترن سلامه النفسي بالتكفير عن قسوته وهجره لابنته التي آذاها دون قصد. و(لأنَّ قصة يونان هي: قصة قساوة القلب، والمخاوف والنجاة والفرح)
إنَّ فيلم الحوت تأمل في الوضع الإنسانيّ، يستند في فلسفته إلى ملحمة موبي ديك وقصة يونان، عبر تشريح الهوس والهرب تحت عدسة الكاميرا ومن خلال لغة الجسد. فالاستسلام هو لحظة نترك الماء/ الحياة التي نعيشها بسبب الجروح الداخليَّة (في محاكاة لما تفعله الحيتان حين تلقي بنفسها فوق البر).
 تنهار أجساد الحيتان بسبب وزنها، وتنهار حياة الإنسان لثقل الغضب والانتقام وكراهيَّة الذات.
وتشارلي في أعماقه إهاب/ الذي ينتقم من الحوت الأبيض (جسده)
وفي ملهاة وجودنا، قد نقع أسرى فنلاحق حوتاً لا وجود له إلّا في مخيلتنا، وقد يكلّفنا حياتنا يكتب الراوي في موبي ديك: “بتُّ شهوراً وأنا عالق في البحر على متن هذه الباقوطة دون أن ألتقي بهذا الموبي ديك الذي أعيا آخاب... وأعياني”.
لقد كان إهاب/ آخاب. يعتقد أنَّ حياته ستصبح أفضل لو قتل الحوت، كان يحسب أنه سيتحرر من الغضب عبر الانتقام ممن قضم قدمه وسمّم حياته، لكن في الحقيقة لم يكن سوى رجل استسلم وخرج من سلامه النفسي لينفقَ فوق أرض الحوت ذاتها.
 وينتهي الصراع في موبي ديك بموت الطاقم كله بطريقة تراجيديَّة ونجاة إسماعيل في تابوت خشبي مستعيداً عبارة من التوراة “وأنا وحدي من نجا لأروي لك”.
وينتهي الفيلم بمشهد ختامي وهو اللحظة التي يحتضر فيها تشارلي بحضرة ابنته وبين الغفران والمسامحة يدرك المشاهد أنَّ النجاة كانت في اللحظة التي استطاع فيها هذا الرجل العاجز أن يقف على قدميه المنتفختين المعطوبتين ويسير باتجاه ابنته/ الحرية.
 لقد تصالح مع ذكرياته بفتح الغرفة المقفلة، ومع ذاته بأن أزال السواد عن الكاميرا ليراه تلاميذه على حقيقته. وليطلب منهم أن يرموا الموضوعيَّة خلف ظهورهم، وأن يعيشوا حقيقتهم وألاّ يشعروا بالعار من أفكارهم مهما بدت عاطفيَّة وبسيطة.
لم تنقذه سوى نظرة ابنته، في تمثل لمقولة آخاب الذي خاطب في أواخر أيامه مساعده استاربك قائلاً: “ قف بقربي يا استاربك. خلني أنظر في عين إنسان، ذلك أفضل من التحديق في البحر أو الفضاء، أفضل من التوجه بالنظر إلى السماء”.