مصيرُ الأرض

ثقافة 2023/06/21
...

إليزابيث كولبرت*

 ترجمة: د. فارس عزيز المدرس



يبدو بقاءُ البشريَّةِ على هذا الكوكب بات أمراً غيرَ مؤكَّد؛ أكثر مِن أيِّ وقتٍ مضى، لكنْ ماذا لو نظرنا بعيون شركائنا مِن المخلوقات الأخرى؟؛ مِن مُنطلق أنَّ التهديداتِ التي تهدّدهم أكثر مِن التهديدات التي نواجهها، فهم لا يملكون الوقايةَ التي نملكها، لكننا لا نشعر بالمآسي إلا بقدر تعلّقها بنا. وهذا خللٌ في أحاديةِ المعيار الأخلاقي، مع أننا غالباً المتسبّبون في المآسي. 



طلبتْ مني مجلةُ نيويوركر إلقاءَ محاضرةٍ تذكاريةٍ عن (جوناثان شيل) بخصوص كتاباته عن مصير الأرض، وهو كاتبٌ قديم في نيويوركر؛ فقررتُ التركيز على خطر الإبادة النووية، والذي يبدو الآن- وبفضل دونالد ترامب وكيم جونغ أون- خطراً أقرب إلينا مِن أي وقت مضى. لكنني سأحاول فعْل شيءٍ مختلفٍ؛ فبدلاً مِن النظر إلى مَصيرِ الأرض مِن منظورنا البشري؛ سأنظر إليه مِن وجهةِ نظر الملايين مِن الأنواع غير البشرية التي شاركتنا الكوكب.

الانقراض المُتسلسل

 سواءٌ كانت الأعاصير أو الجفاف أو الفيضانات أو حرائق الغابات، فإننا نشهد آثاراً مزعزعةً للاستقرار العالمي كالذي تنبَّأ به (شيل)، وسأبدأ بحيوان اسمه توگي Toughie. 

لم يكن مِن دواعي سروري أن ألتقي به، على الرغم مِن أنني قابلت أحدَ إخوته، أو أبناءَ عمومتِه. وُلد هذا الحيوان وسط بنما؛ وهي منطقة جميلة وعِرة غنيَّة بالتنوع البيولوجي. وضعت والدته بيضها ففقس هو وإخوتُه هناك، ثمَّ تولّى والدُهم الاعتناءَ بهم. ولم يكن هناك الكثير من الضفادع لتأكله، لذلك استطاع وإخوتُه أن يتغذوا على جلْدِ ظهر أبيهم؛ لتستمرَّ حياتُهم. كان توگي يعيش في الغابة السحابية عام 2005، عندما عثر عليه أخصائيو الزواحف، وهو يمثلُ نموذجاً لنوعه، اكتشفوه وهم يحاولون تصنيف الحياة البرمائية وسط بنما؛ قبل أن يختفي. لقد شاهدوا في رعبٍ طاعوناً اجتاح الجزء الغربي من البلاد، يقضي على الضفادع، وكانت موجةُ الموتِ تتحرّك شرقًا، نحو وسط البلاد، وهو موطنُ أنواع البرمائيات.

حاول العلماءُ تصنيفَ ما كان موجوداً قبل فقده، وراحوا يجمعون الحيوانات الحيّة، لإنقاذ أزواج التكاثر، كما في حالة ضفدع الشجرة ذي الأطراف الهامشية، قبل أن يضربَه الوباءُ. وتمكّنوا من جمعِ عددٍ من الإناث والذكور، بما في ذلك توگي، إلا أنَّهم لم ينتجوا ذريةً قابلةً للحياة. وعندما مات توگي في سبتمبر 2016، كان موتُه إيذانا بانقراضٍ حذَّرتْ منه صحيفةُ التايمز، تحت عنوان: “يموت ضفدعٌ في أتلانتا، ويختفي معه العالم”.

كان سببُ الانقراض، الطاعون البرمائي، وهو فطر يُسمى Batrachochytrium dendrobatidis، ومختصره Bd، ولا أحدَ يعرف مِن أين نشأ، أو كيف انتقل، لكنه ظهر في قاراتٍ مختلفةٍ في وقتٍ واحد، وهذا يعني أنه جرى نقلُه مِن لدن البشر. وتقول إحدى النظريات إنه جرى نقلُه عِبر العالم على ضفادع تم تصديرها في الخمسينيات من القرن الماضي لاستخدامها في اختبارات الحمل. واتضح أنَّ الضفادع الأفريقية يمكن أن تحملْ Bd لكنها لا تُصاب به، وربما تكون مسؤولةً عن انتشاره. ومن خلال عيون توگي وأمثاله يشبه فطرُ Bd إلى حد كبير حربَ الجراثيم المصمَّمة لإحداث أقصى ضرر.

 أحدُ أكثر الأقسام إثارةً للقلقِ في كتابِ شيل عن الحرب النووية الفصلُ الذي يحمل عنوان “الموت الثاني”، يقول فيه: “ تمكَّنا مِن إرسال الناس إلى موتهم، ولكن الآن أصبح مِن الممكن منع ولادتهم، وبالتالي الحكم على جميع البشر في المستقبل بعدم الخلق” وهذا ما فعلَه انتشارُ فِطرُ Bd لضفدع الشجرة: لقد حُكم على جميع الأجيالِ القادمة بالعدم.

الرعب المقيم

رعبُ الفطرياتِ يفوق خطرَ الفيروسات بكثير؛ لولا هلاكها في درجاتِ حرارة الجسم البشري. وإذا ما تخطّتْ الفطرياتُ هذه العقبة بطفرةٍ وراثية- مِن تدخل الإنسان مثلاً- فاقرأ على الحياة البشرية السلام.

لنضربَ مثلاً بفتّاك آخر يُعرف بمتلازمةِ الأنف الأبيض، وهو مرضٌ تم اكتشافه في نيويورك في عام 2007، وقتل الملايين مِن الخفافيش. فطرياتٌ ربما تم إحضارها إلى نيويورك على حذاءٍ أو حقيبة لبعض السائحين. والمشكلةُ مع الأنف الأبيض- كما هو الحال مع الفطر Bd- أنه بمجرّد وصوله إلى بيئةٍ ما فيمكنه أن ينتشرَ مِن تلقاء نفسه. إننا نرى نقل الكائنات الحية حول العالم أمراً عادياً؛ يجيءُ بالعديد من الكائنات الموجودة إلى ساحاتنا الخلفية مِن قارات أخرى، لكنْ عندما ننظر إلى هذا مِن منظور كائناتٍ أخرى تبدو العملية مختلفةً... الفناء!!. 

الدمج الافتراضي للقارات

 على مَدار التاريخ التطوّري لم تظهرْ النباتاتُ والحيوانات في قاراتٍ جديدة، وإذا حدث ذلك فهو نادرٌ، وربما يحدث نتيجة تسونامي، أو بعض الأحداث العنيفة الأخرى. لكن بدون مساعدة لا يمكن لحيوانٍ بري عبورُ المحيط، ولا لمخلوق بحري عبور القارة. ومنذ 250 مليون سنة تم دمج اليابسة في قارة واحدة تدعى بانجيا Pangea (القارة العملاقة قبل أن تنفصلَ لينتج عنها القارات المعروفة)، لذلك يُشير علماءُ الأحياء إلى أننا نخلق (بانجيا) جديدة من خلال الجمعِ بين النباتات والحيوانات في العالم. وهذا تغيّرٌ خطير في تاريخ الأرض. أي أننا ندير التاريخَ الجيولوجي للخلف وبسرعةٍ. إنَّ ما يحصل هو تحطيم القواعد الأساسية للطبيعة. 

خذ مثلاً مستعمرةَ Acropora، وهي شِعابٌ مرجانية شائعةٌ في الحاجز المرجاني العظيم. والمرجانُ حيواناتٌ استعمارية، تشبه البشر مِن ناحية أنهم مهندسون عظماء. تقوم ببناء نفسِها عن طريق إفراز كربونات الكالسيوم، ومئات المليارات مِن الشعاب المرجانية التي تعمل في هذا المشروع، جيلاً بعد جيل، لتصنعَ هذه الهياكل الهائلة المهمة للحياة البحرية.

 

 في المناطق الاستوائية تميل المحيطاتُ إلى أن تكونَ منخفضة العناصر الغذائية، لأنَّ المياه لا تتحوّل كثيراً. والمياهُ منخفضةُ العناصرِ الغذائيةِ منخفضةٌ الحياةِ بشكل عام. لكنَّ الشِعاب المرجانية مليئة بالحياة. والسبب هو أنَّ هذه الشِعابُ تضم الكثيرَ من أنواع المخلوقات، وتتبادل مع بعضها البعض ما يحتاجون إليه للبقاء. وعلى الرغم مِن أنَّ الشعابَ المرجانية كائناتٌ بسيطة إلا أنَّها حسّاسةٌ للتغيرات؛ فهي تنمو في المياه الصافية، وإذا أصبح الماءُ عكِراً نتيجةَ إزالةٍ الغابات فلن تتمكّن مِن التأقلم.

 المياه الحامضيّة

عندما نحرق الفحمَ والنفط والغاز فإننا نأخذ الكربون الذي عزله على مدى مئات الملايين من السنين ونعيده إلى الغلاف الجوي في غضون قرون، أو عقود؛ كثاني أوكسيد الكربون. وهذا لا يؤدي إلى ارتفاع حرارةِ الكوكب فحسبُ؛ بل يغيّر كيمياء المحيطات. ويتم امتصاصُ الكثيرِ من ثاني أوكسيد الكربون في مياه البحر، ليذوبَ ويشكّلَ حمضَ الكربونيك، والمياه المحمّضة تجعل مِن الصعب على الشعاب المرجانية إكمال مشاريع البناء.

إذا تركنا الفطرَ Bd مع الضفادع بوصفها حرباً بيولوجية، فإنَّ تحمّض المحيطات حربٌ كيميائية. والعلماء يتوقّعون انهيارَ مشروع بناء الشعاب المرجانية بأكمله، وهو الذي كان قيد التنفيذ لملايين السنين، وسيكون على وشك الفناء بفعل حامضية البحار.

حلم الرخام الأزرق

الجميع رأى هذه الصورة مِن قبل، إنها لقطةُ “الرخام الأزرق” الشهيرة، وهي أولُ صورة للأرض، التقِطت عام 1972 من لدن طاقم أبولو 17، وغالباً ما يُقال إنها تمثّل نقطةَ تحولٍ في علاقتنا بكوكبنا. لكنَّ منظورَ الرخام الأزرق مِن ارتفاع يزيد على عشرين ألف ميل، ليس منظور المرجانِ أو الروبيان أو الضفادع. إنه منظورُ عالمٍ قيدِ الاحتضار، لكنَّ أغلبنا سكرانٌ بحلم الصورةِ الرومانسية لكرةِ الرخام الأزرق؛ ولا يعي بما يجري في واقع الحال.

 الكتلة الحيوية الهائلة

 تُقدر الكتلة الحيوية لسكان الأرض اليوم بعشر مرات أكبر مِن الكتلة الحيوية لجميع الثدييات البرية على كوكب الأرض، وفي الوقت نفسه إذا نظرنا إلى وزن حيواناتنا الأليفة، الأبقار والماعز والدجاج... فالوضع أكثرُ خطورةٍ؛ فكتلتُها الحيوية أكبر بنحو خمسة وعشرين مرة من تلك الموجودة في الثدييات البرية. وإذا جُمِعنا نحن وحيواناتنا الداجنة معاً قُبالةَ الكتلة البايولوجية البرية فستكون النسبة 35 إلى 1، وهذا خللٌ مروّعٌ، حتى على مستوى استهلاك الأوكسجين وطرح ثاني أوكسيد الكاربون.

وأخيراً الشيءُ المخيف ليس هشاشة الحياة البشرية؛ بل نشاطها الذي لا يرحم. لذا فإنَّ أجراسَ الخطرِ تقرع صارخةً بوجوبِ العنايةِ بمصير الأرض قبل فواتِ الأوان، فنحن لم نعد على هذا الرخام الأزرق. وإذا كنا نفكّر في أنفسنا فحسبُ؛ فإننا نفشل كفاعلين أخلاقيين، أيْ نفشل بوصفنا بشراً.