جذور السلطة

آراء 2023/07/03
...






 محمود نجم الدين المعمار 


امتازت السلطة عبر التاريخ بطابع القدسية والاحترام والتبجيل، ولفهم مفهوم السلطة يجب علينا فهم الدواعي التي من اجلها منح اغلب الناس زمام امورهم إلى فئة قليلة أو أفراد، وما الدواعي التي دعتهم للتنازل عن ارادتهم بمحض ارادتهم لتلك النخبة، وما الذي يميزهم عن بقية الخلائق، وتأتي هذه السلسلة لتبيان تشكل الاشكال الاولية للسلطة وصورها وتطورها عبر التاريخ، ما الحاجات التي دعت إلى ذلك. 

وقد تمظهرت أشكال متعددة للسلطة وشرعيتها منذ عصور ما قبل التاريخ، بل منذ ظهور الانسان إلى الاشكال الحالية من السلطة المستمدة قوتها بسبب القانون.

تنوعت اشكال السلطة على مر التاريخ واحيانا تشاركت فئتان أو اكثر مشاركة سلطة فاعلة، فمفهوم السلطة ليس حكرا على السلطة السياسية وحسب، وانما تنوعت اشكال السلطة لتشمل السلطة الثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وغيرها.

وما يهمنا فعلا هي السلطة السياسية وما هي الدوافع والحاجات التي دعت المجتمع لمنح السلطة، يوجزها ماكس فيبر بثلاثة محاور رئيسية الكارزما والتقاليد والقانون، اضافة إلى ما اسهم به الفيلسوف الالماني هابرماس أن اصل الشرعية يتأتى من الاستقرار، إلا أننا نرى أن الأمر أعمق اثرا من 

ذلك.

فإن في الامر بعدًا نفسيًا خطيرًا يدفع الإنسان احيانا للتنازل عن ارادته لصالح غيره وهو مرتاح الضمير، فكثيرا ما يكون الانسان ميالا للهروب من المسؤولية والقائها على عاتق غيره، تفاديا لعبء إلقاء اللوم على نفسه، فيتنازل بمحض ارادته عن حريته ويتبرع بها إلى طغاته، وإنه إذ يقدر الشخص ذاك لا يستند بذلك إلى المحاكمة العقلية ومدى امكانية الشخص على تحقيق وعوده واقعا على ارض الواقع، إذ إن الناس ميالة إلى تصديق من يمنيهم بالاماني وغير مهيئين لتقلي الحقائق.

فغالبا ما تكون الحقائق مخيبة للامال والاماني تتجاوز امكانية التحقيق.وهنا يبدا التحول، اذ كثيرا ما يستغل شخص يتحلى بذكاء مرتفع موقفا فيجيره لصالحه، وكثيرا ما حدثت مثل هذه الامور، كأن يضخم لهم مخاوفهم كما فعل غوبلز وزير الدعاية للحزب النازي ابان إن لاحت بوادر الهزيمة من قبل الحلفاء، فأخذ يغذي الجبهة الوطنية بشائعات مفادها بأن السوفيت سيقومون بإبادة الالمان بمجرد دخولهم إلى برلين، وسخر هذه الدعاية لاستخدام النساء الالمانيات في معامل صناعة السلاح، وكان هذا خلافا لأيديولوجياتهم التي كانوا يتبجحون بها من حيث ان النساء الالمانيات سيقع على عاتقهن مهمة واحدة فقط وهي ضخ المزيد من الدماء الآرية عن طريق الولادة خدمة للوطن.

وإن بقية المهام المتدنية سيقوم بها الاعراق الادنى منهم، ولم يقم غوبلز لتحقيق مآربه سوى بالثرثرة لاغيرها، مستغلا مخاوف الالمان، فكثيرا ما كانت الديماغوجية دافعا فعالا لاصدار قرارات لم تكن لتخطر على خاطر احد.

 والديماغوجية هو اسلوب دفع الناس لاتخاذ القرارات بناء على مخاوفهم، وبعد ان يتمكن من الاستحواذ على السلطة يبدأ باختصار جميع المناصب في شخصه ويعين اشخاص ذوي امكانيات خلقية متدنية وامكانيات عملية عالية يمتلكون من الطمع ما يؤهلهم لتنفيذ ادنى المهام دون ان يوغزهم ضميرهم اي وغزة، ذلك لأنهم قد صاروا شيئا أشبه باللاشيء، فإنهم لا يمتلكون حق مناقشة الاوامر الصادرة عن مرؤوسيهم، ولا تحليل تلك الاوامر ومدى خضوعها للمعايير الأخلاقية، وبالتالي هم ليست لديهم صلاحية الاختيار والرفض، فإن تسنمهم تلك المناصب جاء على اساس الولاء وليس الاداء فإنهم يسعون دائبين لاثبات جدارة الولاء، وليس الاداء لانه كان السبب الرئيس في ما هم عليه الآن، وبذلك ظهرت معضلة محاكم نورمبرغ حيث تذرع المحكومون عندما سوئلوا عن جرائمهم إنهم لم يفعلوا شيئا سوى اطاعة الأوامر الصادرة عن قائدهم الاعلى، وأنه أفهمهم انهم يفعلون ذلك خدمة للوطن، فكثيرا ما تذرع المجرمون بمسميات لها من القدسية ما لها في نفوس العامة لتحقيق ماربهم الخسيسة، وأنهم ليسوا سوى عجلات مسننة يربط زنبلكها فتسمع طقطقتها لتعمل، وأنهم لو امتنعوا عن القيام بتلك الاوامر لكانوا قد تعرضوا للخيانة العظمى ولقام شخص اخر بهذه المهام، وهنا تظهر جليا ضآلة حجم تاثير المواطن في دول الاستبداد وأن قوة تاثير المواطن تتضاءل، بوجود الطغاة إلى قيمة صفرية، فيجد نفسه أنه يضحي بنفسه دون أن يكون له تاثيرا يذكر كمن يشعل عود ثقاب ليحاول تدفئة غرفة مخلوعة النوافذ والابواب في طقس قارس، لذلك يميل الانسان إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة، ويعتزل وينأى بنفسه من ان يكون له موقف سياسي، قد يضطر هو وحده لدفع ثمنه، لذلك كثيرا ما تحولت جماعات غاضبة إلى ثورات لم يخطط لها من قبل، فهم يستقوون بإجماعهم ولو تفرقوا لما كان لهم ذلك التاثير، لذلك كان الرومان قديما لا يحترمون الشخص الذي لا يكون له رأي في أمر العامة، كذلك فإن الانسان أشدُّ ميلا إلى التضحية بنفسه عندما يستشعر أن لموته اثرا يذكر اكثر من الأثر المتاتي من حياته يلمسه من يبقى بعده، فعندئذ يسترخص روحه في سبيل ذلك المجد.