صوت العرب ليست مجرد إذاعة

منصة 2023/07/06
...

  عفاف مطر
صوت العرب من أهم الإذاعات في العالم كله، والتي تم استعمالها للدعاية السياسية، والدعاية أداة مهمة ورئيسة لتنفيذ السياسة الخارجية لأي دولة، وهذه الاداة اكتسبت أهمية استثنائية في الحرب العالمية الثانية. يقول دوجلاس بويد الاستاذ الفخري للأعلام في جامعة كنتاكي:" صوت العرب كانت استاذاً للترفيه السياسي" كانت الثورة المصرية عام 1952 بداية الاذاعة السياسية في العالم العربي إذ تأسست صوت العرب 1953، ولم تكن الاذاعة الوحيدة في العالم حينذاك لكنها كانت نقطة البداية للبث الاذاعي للترويج للسياسة الخارجية.

صوت العرب كانت ذات حس قومي وهدفها طرد الاستعمار من الدول العربية كلها التي كان بعضها يرضخ تحت الاستعمار الانجليزي والآخر تحت الاستعمار الفرنسي أو الايطالي ايماناً بفكرة الأمن القومي العربي.
بعد الثورة تم نشر كتاب (فلسفة الثورة) لجمال عبد الناصر وبدأت فكرة الدوائر الثلاث التي بشر بها عبد الناصر، الدائرة الأولى كانت دائرة العالم العربي، وأنشأ في سبيلها امبراطورتيه الاذاعية وتلاها التلفزيون المصري، وكانت سياسة ناصر الخارجية يتم تنفيذها بشكل عام عبر الاذاعة، لأنه كان يدرك أن مناصريه لم يكونوا من المصريين فقط، بل من الأقطار العربية كافة، واستجابت الشعوب العربية لمطالب ناصر القومية وتفاعلت معها. وضعت مصر استراتيجية لصناعة الترفيه والترويج السياسي ونجحت في جعله جذاباً ومشوقاً.
في 1953 كان هناك شاب من الصف الثاني من الضباط الأحرار وكان زميل عبد الناصر في كلية أركان الحرب اسمه زكريا محي الدين، أولى إليه عبد الناصر مهمة إدارة ومسؤولية ما يسمى بالشؤن العربية في الجهاز، زكريا أولى مهمة لضابط آخر اسمه فتحي الديب، استخرجوا له بطاقة وجواز سفر بغير صفته الحقيقية، بل كمفتش في دائرة المعارف ليجول في الوطن العربي بحرية ليتعرف على كيفية التواصل مع هذه الشعوب البسيطة وليس حكامها. وعاد فتحي الديب وكتب في تقريره توصية بعمل برنامج اسمه صوت العرب يبث يومياً لمدة نصف ساعة فقط ويكون خطابه موجهاً للشعوب العربية كافة لشرح أهداف ثورة 1952 وفي الوقت ذاته يحث المناضلين العرب لقيادة بلادهم نحو الاستقلال فوافق عبد الناصر على توصية الديب وأوفده إلى إذاعة القاهرة لتنفيد هذا البرنامج. في هذا الوقت كان صلاح سالم هو وزير الارشاد القومي وإذاعة القاهرة كانت تحت سلطته وتباحث الاثنان الديب وسالم حول كيفية تنفيذ البرنامج ومن يقوم بتقديمه فجاءت توصية من أحد العاملين في الاذاعة بتكليف أحمد سعيد العامل في قطاع الأخبار وبأنه الشخص المناسب لهذا البرنامج لأنه يمتلك موهبة مميزة في التقديم الاذاعي.
أحمد سعيد كان يبلغ من العمر حينها 27 سنة وكانت سمعته جيدة بسبب تغطيته الاذاعية لأعمال الفدائيين عام 1951 في قناة السويس والاسماعيلية. وهكذا بدأ صوت العرب يوم 4 تموز 1953 بأحمد سعيد، فضلاً عن المذيعة نادية توفيق واسند نداء (القاهرة تنادي أمة العرب) لكبير مذيعي مصر حسني الحديدي. نادية توفيق كانت أول من اجتذب الفنانين والمطربين العرب لأجراء حوارات معهم عبر اذاعة القاهرة وبث اغنياتهم مثل (فيروز وفريد الأطرش وفايزة احمد ونجاح سلام وناظم الغزالي ووديع الصافي وغيرهم) لهذا كانت تتمتع بجمهور عربي قبل صوت العرب في حين كان أحمد سعيد ينحصر عمله في السياسة المصرية.
1954 اصدر الاحتلال الفرنسي قراراً بخلع ملك المغرب محمد الخامس من الحكم ونفيه إلى مدغشقر، وكان هذا بعد شهر تقريباً من تأسيس صوت العرب، فكان القرار الفرنسي الاختبار الأول لهذا البرنامج، فحشد صوت العرب كل امكانياته للهجوم على قرار المحتل الفرنسي وقامت التظاهرات في المغرب حتى تراجع الفرنسيون عن قرارهم وتمت اعادة محمد الخامس إلى سدة الحكم ونجح صوت العرب في اختباره الأول. استمر نجاح صوت العرب ليس فقط لأجل برنامجه السياسي، بل لبرامجه الفنية المنوعة، فكان هناك برنامجاً عنوانه (فرح الشهر) إذ تختار الاذاعة أسرة من مشرق الوطن العربي أو من مغربه وتجري مسابقات بين هذه الأسر والأسرة التي تفوز تكسب الجائزة وهي أن يحيي أحد فناني العرب المشهورين هذا الفرح كهدى سلطان أو شادية أو عبد الحليم.. وغيرهم ويذاع الفرح عبر الاذاعة لكل أرجاء الوطن العربي الذي اجتمع على حب هذه الاذاعة. عبر صوت العرب تم اعلان بيان ثورة الجزائر عام 1954 وكانت حريصة على دعم الثورة والمقاومة الجزائرية. يذكر أحمد سعيد في مذكراته حادثة غريبة وهي أنه التقى أحد الأيام بأحد الثوار الجزائريين يدعى المزياني مسعود وهو يحمل حقيبته قادماً من الجزائر، فأخذه أحمد سعيد وعرفه على فتحي الديب وغادر، بعد مدة دخل عليه فتحي الديب والمزياني مسعود وقال له الديب: المزياني مسعود توفي وهذا الذي تراه أمامك هو ومنذ الآن اسمه أحمد بن بيلا قائد الثورة الجزائرية.
تزايد عدد المتطوعين الجزائريين للاشتراك في الثورة بصورة غير مسبوقة، وحين سألهم قادة الثورة عن سبب قدومهم للاشتراك في النضال أجاب الجميع أن السبب هو صوت العرب. اعلنت قوات التحالف العدوان الثلاثي على مصر (اسرائيل وفرنسا وبريطانيا) وكان سبب هجومهم هو تأميم قناة السويس وفي الوقت نفسه أعلنت فرنسا أن صوت العرب والإعلام المصري وتأثيره الكبير في خسارتهم في الجزائر كان سبباً رئيساً أيضاً لهذا العدوان اضافة إلى تأثيرهم على الشعب المغربي وعودة محمد الخامس إلى عرشه رغماً عنهم.
سأل داج هامرشولد السكرتير العام في الامم المتحدة حينذاك جمال عبد الناصر فيما إذا كان من الممكن نزع سلاح الإذاعة حتى لا تثور المزيد من الشعوب العربية ضد حكامها فأجابه عبد الناصر: " كيف يمكنك أن تطلب مني ذلك؟ إذا نزعت سلاح الاذاعة فسأصبح أنا أيضاً بلا سلاح" فكان اسكات صوت العرب من المهمات الرئيسة للعدوان الثلاثي لهذا تم استهداف محطات الارسال لإيقافها وتوقفت فعلاً لكن في اليوم التالي مباشرة سمع العرب المذيع السوري عبد الهادي بكار وهو يصدح قائلاً:" من دمشق ... هنا القاهرة" ولم ينجح العدوان الثلاثي في اسكات صوت العرب.
في عام 1959 أرادت القوى الغربية منع باخرة كليوباترا المصرية من افراغ شحنتها من البضائع المصرية في ميناء نيويورك، ورفض إتحاد العمال في نيويورك افراغ الشاحنة بسبب المشكلات التي سببتها مصر عبر صوت العرب، فخرجت صوت العرب تنادي العمال العرب في كل مكان في العالم لمساندة كليوباترا فأضرب العمال العرب في كل مكان عن افراغ ليس السفن الاميركية فحسب، بل وحتى الطائرات، فتراجع اتحاد العمال الامريكي ليفرغوا كليوباترا. اليمن 1962 كان يحكمها نظام امامي شديد التخلف لدرجة أن المواطن اليمني العادي لا يمكنه امتلاك جهاز راديو صغير الا بموافقة الامام ولهذا قام الشعب اليمني بثورته ضد نظام الامام ودعمت صوت العرب ثورتهم وكان لها دور لا ينسى كما أن مصر أوفدت إلى اليمن من يساعد العاملين في الاذاعات اليمنية من كوادر فنية ومذيعين لتدريبهم وتزويدهم بما يحتاجوه لاسيّما أن امام اليمن الامام أحمد كان قد جمع أجهزة الترانزيستر كلها من اليمينين وأمر باحراقها وكانت نحو خمسة آلاف جهاز فقط لأنها كانت تبث صوت العرب وكان للمصريين دور مهم واساسي في ترقية إذاعة
صنعاء.
بعد دخول عبد الناصر إلى شمال اليمن بناءً على طلب الثوار استطاع بعد اربع سنين من تحرير جنوب اليمن الذي كان تحت الاستعمار البريطاني وقبل دخول المفاوضات بين مصر وبريطانيا كانت بريطانيا قد اشترطت منع بث صوت العرب في اليمن لأنها كانت تحرض على قواتها وسياستها في اليمن لكن عبد الناصر ألقى بخطابه الناري في مدينة تعز التي تبعد عن صنعاء بضع كيلومترات وقال جملته الشهيرة "على قوات الاحتلال البريطانية أن تضع عصاها على كاهلها وترحل من كل اليمن" فأحدث خطابه هذا الذي بثته صوت العرب انقلاباً في الأحداث.
في ما أطلق عليها النكسة نكسة 67 الموافق الخامس من شهر تموز عام 1967 شعر العرب كلهم بالانكسار وأطلقوا عليه اليوم الأسود في كل الوطن العربي، وتم تحميل أحمد سعيد فاتورة الهزيمة ذلك أنه كان يذيع بيانات انتصارات مزيفة هو غير مسؤول عنها، فقد كان مذيعاً يقرأ ما يتم ارساله اليه، ونسي الناس كفاح أحمد سعيد في لحظة واحدة وحُمِلَ أكثر مما يحتمل وتم استبعاده، وعبر صوت العرب أطلق عبد الناصر قرار اعتزاله الحكم والسياسة والعودة إلى صفوف الجماهير.
من 1967 إلى 1970 قدم عبد الرحمن الأبنودي برنامجه (وجوه على الشط) في إذاعة صوت العرب، وجمع مادة البرنامج من جولاته بين القرى المتناثرة على خط قناة السويس أيام حرب الاستنزاف وعاش مع الفلاحين البسطاء الذين رفضوا مغادرة قراهم والبقاء في أراضيهم ومع عوائلهم وحيواناتهم رغم صوت القذائف المستمر. كما اشتهرت في هذه الفترة أيضاً فرقة غنائية (فرقة أولاد الأرض) وكانوا يعزفون على السمسمية وينشدون للفدائيين الذي يعبرون القناة وينفذون عملياتهم ضد الإسرائيليين لتحرير سيناء.
لعبت صوت العرب دوراً خطيراً في حرب الاستنزاف فقد كانت تستعمل لتوصيل رسائل مشفرة بين مصر وسوريا والاردن وكانت هذه الرسائل عبر الأغاني التي تبثها صوت العرب، ومن المطربين الحاملين لهذه الرسائل المشفرة المطربة الكبيرة شادية فتغني أغنية لتحذرهم من الضفادع البشرية الاسرائيلية التي دخلت المياه المصرية، أو أغنية لتخبرهم أن المجال مفتوح الان لعملية فدائية، كذلك كان المطرب محمد قنديل وأغنيته بين شطين ومية وكان يقصد بها شط القنال وغيرهم من المطربين.
الاعلام المصري في 1973 كان مختلفاً تماماً عن إعلام 1967  إذ كان حريصاً في تجنب أخطاء الماضي ومهتماً لإرجاع مصداقية صوت العرب ومكانتها كما كانت، فكان كل من صبري سلامة وحلمي البولوك بدلاً من أحمد سعيد، وكانت نبرتهما أهدأ وأكثر اتزاناً من نبرة سعيد الحماسية الثائرة، ويعود الفضل في ذلك لعبد القادر حاتم الذي كان حريصاً ليس فقط أن تكون نبرة الصوت أهدأ من 1967 بل أهدأ من الحقيقة نفسها، حتى أنه كان يتواجد في الاستوديو أثناء إذاعة البيانات ويطلب من المذيع الذي قد تأخذه الحماسة ونشوة الانتصار فيعلو صوته الاتزان وبالمزيد من الهدوء حتى تحقق انتصار حرب اكتوبر في 1973 (حرب الأيام الستة) وشهدت صوت العرب حينها تدافع كبار الفنانين عليها مثل عبد الحليم وشادية ووردة الجزائرية وعفاف راضي وبليغ حمدي وغيرهم والكل يريد أن يغني للانتصار بعد هزيمة 1967 وبلا مقابل مادي. استطاعت صوت العرب عبر تاريخها وتأثيرها في الأحداث والسياسة والحروب تحقيق ما يسمى بالعلاقات الدولية (القوى الناعمة) على أرض الواقع. ربما صوت العرب هو الإرث الجميل الذي تركه جمال عبد الناصر حتى يومنا هذا وإن لم يكن متوهجاً كما كان من قبل.