صروح الوهم في رواية {النفق}

منصة 2023/07/10
...

  رنا صباح خليل

إن المتأمل لرواية (النفق) للروائي الارجنتيني إرنستو ساباتو  والمترجمة للعربية على يد المترجم (مروان ابراهيم صديق)، عن منشورات دار المأمون للترجمة والنشر، يلمس بوضوح نزوع كاتبها نحو الجانب السايكولوجي للشخصية، بعدما يظهرها وهي منعزلة عن العالم الخارجي بطريقة تفكيرها الواحدة والمخالفة في مخالطتها للناس المحيطين بها، مع سعي الكاتب نحو التركيز على إبراز ذاتية الشخصية الروائية من خلال الراوي، اذ لا يقتصر عمله على ما تنطق به، انما يهتم بصياغة ما تشعر به وتفكر فيه، وعندما ينقل عنها ما يصوغه يحرص على أن يمتاز أسلوبه بمرونة عالية، قد تستقل في بعض الأحيان عن المحتوى اللفظي لذهن الشخصية، من خلال القدرة الفائقة على تصوير مشاعر الشخصية ومخاوفها ورغباتها وحوافزها بصفتها مستودعا من العواطف، والمشاعر، والأفكار الكامنة المخفية غير الظاهرة، فهي شخصية ذات (محتوى سايكولوجي خصب ومعقد معا مليء بالتوترات والانفعالات النفسية تغذية دوافع داخلية، وله أثره الواضح في ما يقوم به من سلوك، ويكشف عن الكثافة السايكولوجية التي يمتلكها وعلاقته المتوترة بالآخرين)( ) ذلك أن (خوان بابلو) الشخصية الرئيسة والمحورية في الرواية، كان رساما قد وقع في حب (ماريا ايريبارنه هونتر) الشخصية الثانية في الرواية بعدما رأها تنظر باهتمام وعمق إلى نافذة مرسومة في احدى لوحاته، وهذه النافذة تحمل مشهدا لامرأة تجلس على الساحل وتحدق في البحر في تمثيل مطلق للوحدة والانعزال اللذين كانت ماريا تتمثلهما ايضا، ولكن ليس بطريقة مرضية مثل التي كانت عند خوان بابلو، وأدت به في النهاية لأن يصبح قاتلا، وبسبب هذه التركيبة المعقدة لشخصية بابلو، لجأ الروائي إلى بث صياغته الخطابية للحياة الداخلية للشخصية الروائية، وعمل على نبش وتفسير ما يدور في دواخلها بشكل قد يفوق قدرتها على التعبير عن تلك الدواخل ونقلها للمتلقي مع الحرص على  خلق بعد زمني خاص بها، عن طريق المحاججة والتساؤل، الذي يملأ الرواية عامة، والاعترافات التي يبثها (بابلو) بين سطورها من مثل "أنا استطيع أن أتحدث حد الإعياء وأن أصرخ في مؤتمر أمام مئة ألف روسي دون أن يفهمني أحد، ترى هل يفقهون ما أريد قوله؟"(2)  .
" كنت اجد نفسي في تلك اللحظات كما في لحظات اخرى مشابهة وحيدا، بسبب افعالي السيئة والوضيعة، وكنت اشعر بدناءة العالم مع إدراكي بأني اشكل جزءا منه" (3)  أما أعظم اعترافاته، فهي ما نطقها في نهاية الرواية بعدما حوكم على قتله لماريا واعتقل إذ قال "أحسست كأن كهفا عميقا اتسع داخل جسدي"(4). ولم يكن ذلك الكهف سوى مخاوفه، التي كان يستبطنها لا وعيه وهو في زنزانته؛ فبعد أن عاش وحيدا طوال حياته حتى بعد أن احب ماريا اصبح ملزما بمخالطة الناس، وهم ليسو أناسا عاديين، بل مرتكبو جرائم، وهو بالنسبة لهم الانقى والأبرأ، وبإدراكه هذا يتمثل لنا قول العالم فرويد في أن الأنا هو ذلك الجزء من الهو الذي تعدل بنتيجة تأثير العالم الخارجي فيه بواسطة جهاز الادراك الحسي ـ الشعور. وهو يقوم بنقل تأثير العالم الخارجي إلى الهو، الذي يتمثل هنا  بعد الحكم على بابلو بالسجن، ومحاولة أن يضع الكاتب مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة، الذي يسيطر على الهو فهي محاولة نستطيع ادراكها بعد أن غادر بابلو لذته بقتله لحبيبته، ويتجلى مبدأ الواقع في أن يحتمل المرء التوتر، وينتظر تفريغ الطاقة حتى يتم احضار الموضوع، الذي يلبي الحاجة وهذا يفسر إحساسه باتساع كهف بداخله، ويتضح من خلال ذلك أن هذا المبدأ، لا يلغي اللذة التي ينشدها فقد استحضر (بابلو) خياله كفنان يستطيع تصوير ما يشعر به ويبثه للعالم مثل لوحة يرسمها، وهي تكمن في دواخله وتختلج بأحاسيسه، ولكن سعى إليها بشكل واقعي ومباشر(5) .
إن مشاعر الخوف لدى (بابلو) يمكن تفسيرها على وفق قول فرويد السابق، بأن الأنا لديه أرغمه على اتخاذ قرار القتل لحبيبته بضغط الأنا الأعلى، رغم دافع الهو (مخزن الرغبات والغرائز اللا واعية والدوافع المكبوتة)، فثمة صراع جرى بين الهو مدفوعا بلذة الحب وبين الأنا مدفوعا برقابة الأنا الأعلى (الذي يسعى دائما إلى توافق المرء مع واقعه الذي يعيش فيه)، وقد حدث ذلك بعد أن تغلل الشك في ذهنه واستحوذ على تفكيره حين كان يتصور أن ماريا متعددة العلاقات، فضلا عن أنها متزوجة من رجل ضرير، وهذا ما يشعره بتأنيب الضمير بسبب علاقته بامرأة متزوجة، ونتج عن هذا الصراع اقدامه على قتل ماريا.
إن ما توصلنا اليه الرواية من خلال وعي بابلو هو عدم امكانية الوصول إلى الحب المطلق على المستوى الانساني، بل إن الاعتقاد بذلك ليس له سوى نتائج محددة تؤكدها مجموعة أوهام اخذت اشكالا متعددة داخل النص الروائي، وهي تتمثل بوهم الامتلاك، الذي قادتنا إليه الرواية، خاصة أن كاتبها مدرك أنه لمن الخطأ الخلط بين التجربة الأولية للوقوع في الحب مع الحالة الدائمة للتأثر فيه، وهذا ظهر جليا من خلال شخصية ماريا التي كانت تفهم مشاعرها، وتفسرها بطريقة مغايرة لأسلوب التملك، الذي كان يسيطر على بابلو بعدما ابتعدت عنه عندما احست باستحواذه وتدخله بأبسط تفاصيل حياتها، وبالتالي حاولت أن تغير مفهومه في أن هذه الحالة العاطفية لا تدوم أبدًا وإلى الأبد على وتيرة واحدة، وهو ما يرمز إليه الروائي عندما اختار (النفق) عنوانا لروايته في قصد الإشارة إلى الوجهة الواحدة والمعتمة في التفكير، وقد نجح في توظيف ذلك عن طريق مد الاقتراب الحميمي بين ماريا وبابلو، وجزر المطاردة والابتعاد وتوظيف كل ذلك لأجل ادانة الايهام بمفاهيم عديدة منها الايهام بمعرفة سابقة بمن نحب، ووهم العمر وحساب السنين الذي استغله الاشتغال الروائي، بطريقة لا تخلو من فطنة عندما اخبر بابلو حبيبته عن سنة ولادته فكان ردها صادما له حين قالت انها كانت تظنه اصغر من هذا العمر في دلالة إلى عدم اقتناعها بشخصه، ونظرتها القاصرة له ولأجل ترسيخ هذه المؤشرات داخل المتن الروائي لجأ الروائي إلى إاطة الحوار ليشمل المحاججة والتساؤل والاختلاف في الرأي، وبالنتيجة الإطاحة بوهم ارتعاشة الزهو والعجرفة والاستحواذ، التي ادت ببابلو لأن يقتل حبيبته وتحقق فشله الذريع في ادراكه لفن المحبة وفشله ايضا في تشخيص الأخطاء بالنظرية والممارسة، لا سيما من خلال التأملات، والانضباط
الفردي، والقدرة على البقاء وحيدًا، والصبر، وما إلى ذلك.

الهوامش
1 ـ بنية الشكل الروائي (الفضاء، الزمن، الشخصية) حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، ص302، ط1،بيروت 1990.
2 ـ صفحة 17 من الرواية .
3 ـ صفحة  94 من الرواية .
4 ـ صفحة157 من الرواية .
5 ـ ينظر: علم النفس في القرن العشرين،  بدر الدين عامود، 1: 283، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2001