نذير نبعة.. البيئة الريفيَّة وتجلّيات ألوان الشام

ثقافة 2023/07/11
...

 علي العقباني


يوم الاثنين 22‏ /02‏ / 2016 نهاراً لم نكف عن الحديث أنا وصديقي التشكيلي عن الفنان نذير نبعة، فأنا كنت قد نسخت طباعة لوحة كبيرة لنبعة وأستشير صديقي بالطريقة المناسبة لإظهارها وأي الوسائل أفضل لتعليقها على أحد جدران غرفتي، وعلى واجهة "اللابتوب" استعرضنا الكثير من اللوحات والصور لنذير نبعة، في المساء جاء الخبر.. نبعة توفي بعد أن هزمه المرض ولم تهزمه الفنون. 

فقد رحل في ذلك اليوم الفنان نذير نبعة عن عمر يناهز ثمانية وسبعين عاما، والذي يعتبر واحداً من أبرز مصوّريه الكبار الذين أسسوا أهم ملامح اللوحة التشكيليَّة السوريَّة في القرن 

العشرين.

ولد نبعة في حي المزة بدمشق عام 1938، وتخرّج من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1965، ثم تابع دراسته في باريس ونال شهادة الدراسات العليا من الاكاديمية العليا للفنون الجميلة عام 1974، قبل أن يعود ليستأنف تدريس الرسم في مدينة دير الزور ويقيم في دمشق منذ أواسط السبعينيات حتى وفاته.

أقام الفنان الراحل أول معرض فردي له في دمشق عام 1965، لتتالى بعد ذلك من المعارض الفرديَّة والجماعيَّة داخل سورية وخارجها بأسلوب مازج فيه بين الواقعيَّة والتعبيريَّة السحريَّة معبّراً عن الأجواء الدمشقيَّة والمرأة السوريَّة بألوان فريدة تنتمي لمزيج بصري غني ومرتبط بالتراث والأسطورة الشرقيَّة.

حاز الفنان على وسام الاستحقاق بمرتبة فارس لم يبتعد عن لوحته حتى آخر يوم من حياته وكانت آخر نتاجاته الفنيَّة التي عمل عليها في مرسمه رسومات بالحبر الصيني عن جرائم "داعش" وشذوذها الفكري.

 لم يقتصر دور الفنان الرائد ثابت قباني على تعليمه المبادئ الأوليَّة للرسم فبحسب الكثير من النقاد التشكيليين فقد أسهم القباني في بداياته بتعريفه بالرواد نصير شورى ومحمود جلال (1911 - 1975) وناظم الجعفري (1918 - 2015)، إذ كان يتردد على مرسم هذا الأخير، فكانت أعماله تميل إلى الأعمال التقليديَّة الأكاديميَّة. "بيت قديم" (1959) هي لوحة تعبر بامتياز عن هذه الفترة، حيث كان لهما الأثر الكبير في رسم ملامح تجربته الفنيَّة منذ ذلك الحين وفيما بعد.

 قبل ذلك الوقت، كان يقوم برحلات مع مروان قصاب باشي (1934) إلى مدن صغيرة على أطراف مدينة دمشق كزملكا، ودوما، وداريا، ليرسما هناك الطبيعة.

في العام 1958، بعد أن أنهى تعليمه الثانوي، توجَّه إلى مصر لدراسة الفن في كلية الفنون الجميلة في القاهرة..

يقول في سيرته الذاتية: ولدتُ في دمشق، في حي المزة، وأمضيت سنوات طفولتي الأولى، حيث تهجَّيت لأول مرة أبجديَّة الحب والجمال، ولا تزال تسكنني، ولا يزال عشقي لها طافحاً وكبيراً. ولأنَّ موهبته الفنيَّة ظهرت مبكراً، فلم يألُ جهداً في التوجُّه نحو الفن من دون تردُّد أو مواربة: "تعلَّمت القواعد الأوليَّة للرسم على يد الفنان الكبير ثابت قباني، الذي ساعدني أيضاً على الانضمام إلى جمعية الفنون الجميلة، إذ أصبحتُ بسرعة واحداً من أعضائها النشيطين، وشاركت في عدد من المعارض الجماعيَّة منذ العام 1952، الذي يعدُّ نقطة البداية الحقيقيَّة لتجربتي الفنيَّة الناشئة..".‏

أسهم الفنان التشكيلي نذير نبعة 1938 في إرساء الأسس الجديدة للحركة التشكيليّة الحديثة والمعاصرة وامتلك أسلوباً خاصاً ورؤية متفرّدة، لا سيما في إطار العلاقة مع البيئة والأسطورة ومعالجتهما على سطح اللوحة، ومن خلال عوالم وعلائق لونيَّة مبهرة.. حيث استطاع، طوال أكثر من نصف قرن، أن يقدِّم تجربة فنيَّة اتَّسمت على الدوام بالخصوصيَّة والتطوُّر والانعطاف، بحسب كلِّ مرحلة من المراحل التي كان فيها باحثاً شغوفاً، مطوراً أدواته وموضوعاته، حتى أصبح مدرسة بحدِّ ذاتها، يشار إليها بالبنان ضمن خارطة الفن التشكيلي السوري.

أوفد إلى القاهرة نهاية الخمسينيات من القرن الماضي للدراسة في كلية الفنون الجميلة فيها بعد أن نجح في مسابقة للحصول على منحة مقدمة من وزارة التربية، وليتخرج عام 1964 بمشروع عن عمال مقالع الحجارة، نال عليه درجة الامتياز، ولفت الانتباه إلى موهبته، وبراعته، وقدرته على تطوير معارفه البصريَّة.. وبعد عودته إلى سورية كلف بإنجاز رسوم توضيحيَّة لكتب مدرسيَّة، فكان عمله هذا مناسبة للكشف عن موهبته كغرافيكي، وفرصة لمنح الذاكرة البصريَّة السوريَّة مجموعة مهمة من الرسوم و (الموتيفات) التي وجدت، بحفاوة استثنائيَّة، طريقها إلى الصحافة، لتصبح مرشداً ودليلاً لكثير من الفنانين الشباب الذين عملوا في مجال الرسم الصحفي.

إثر عودته من القاهرة عُيِّنَ أستاذاً للرسم في دير الزور حيث تابع شغفه القديم بتأمل المشهد الطبيعي المحيط، والتعبير عن خصوصيته، فداعبت هواه أشجار الغَرَب التي تنتشر على ضفاف الفرات، فأبدع تصويرها في سلسلة من اللوحات التي تفوح بنكهة أسلوبه المميز، بالتزامن مع سلسلة لوحات غيرها مستوحاة من أساطير حضارات المنطقة.. وقد ضمهما معاً معرضه الفردي الأول الذي استضافته صالة الفن الحديث بدمشق عام 1965 وسط حفاوة ثقافيَّة وفنيَّة واسعة.‏

عام 1968 تقدم إلى مسابقة للمعيدين في كلية الفنون الجميلة، وليصبح بعد نجاحه فيها واحداً من أهم أساتذة الكلية، ومن أكثرهم تأثيراً في الطلاب، وقد استمر في التدريس حتى وقت قريب جداً، وشمل ذلك أقسام الدراسات العليا، باستثناء الفترة الممتدة ما بين عامي 1971 و1974 حين سافر في بعثة للدراسة في المدرسة الوطنية العليا للفنون في باريس (البوزار)، فأسهمت سنوات الدراسة تلك في تطوير خبراته التقنية ومعارفه النظريّة وثقافته التشكيليّة، وقد ختمها بمشروع تخرج عن النباتات نال جائزة 

المدرسة.‏