قوة الكتابة أم قوة الشخصية الملهِمة؟

ثقافة 2019/04/27
...

عبدالزهرة زكي
 
 
في أحيان كثيرة تكون تجربة حياة الكاتب، وشخصيته، أشدَّ أثراً في الآخرين من نتاجه الأدبي. قد لا يفضّل كثير من الكتّاب هذه النتيجة، التي يمكن أن يُفهم منها على أنها تعريض بقيمة تجربة كتابية معينة لصالح قوة شخصية مؤلفها. لكن نتائج سيرة المرء، كاتباً أو إنساناً، لا تتقرّر بموجب رغبته هو وما يفضّل لنفسه من صفة يعرف بها، هذا ما يتقرّر لاحقاً، إنما من الآخرين، الناس، وليس من الكاتب نفسه.
في تاريخنا الأدبي القريب يمكن الإشارة إلى كثيرين عاشوا وماتوا وقد بُني مجدهم على قوة حضور شخصياتهم حيناً وغرابة سلوكهم حيناً آخر أشد من اعتماد أثرهم الكتابي كحافز للمجد. يمكن الاكتفاء، عربياً، بتجربة شاعر مثل يوسف الخال، كمثال، على قيمة نمط شخصيته في الحياة وسلوكه فيها، كقيمة هي الأكبر أثراً وتأثيراً، مما خلّف من نتاج أدبي. 
طراز تفكير وسلوك يوسف الخال كمحرّض ومبشّر بالتحديث والتجديد والمغامرة فيهما هو الملهم لمن ظلَّ الخال يشكّل لهم مثالاً ونموذجاً، فيما يتوارى أثر أدبه بالموازاة مع الأثر الحي لتلك الشخصية. في الأجيال التالية لم نجد امتداداً كتابياً لتجربة يوسف الخال في الشعر، لكن قد نصادف امتدادات كثيرة لتجربته في الحياة، وقد فتنت كثيرين. 
الكاتب هو شخص ملهِم في الحالين؛ سواء في السلوك والموقف، أو في الأثر الكتابي وقيمته الأدبية.وحقيقةً فإن شخصية الكاتب لا تتشكل بعيداً عن طبيعة اهتماماته في الكتابة، وكتابة الكاتب هي أيضاً لا يمكن فصلها عن طبائعه الشخصية، لكنها توازنات ليس بوسع الكاتب التحكم بمقاديرها؛ أين يتركز البريق، وبأيِّ جانب يكون الكاتب ملهِماً. هذا أمر تقرّره حياة الكاتب وظروفه وطبيعة صلته بعمله في الكتابة وأهدافه منها. ما أكثر ما تكون حياة شعراء معينين أوضح وأعمق شعريةً من نتاجهم الشعري، كتجربة حسين مردان، وعبد الأمير الحصيري. إنه عمق تعبّر عنه حياة مثل هؤلاء الشعراء من خلال مدى غرابة حيواتهم وتجاربهم فيها حيناً ومن مدى الحرية التي يمتّعون أنفسهم بها، وحتى تقييدهم حيناً لحرياتهم هو من أشكال الغرابة والمفارقة والفرادة في السلوك، وفي كل فرادة وغرابة شيءٌ ما من سحر الشعر. 
بمثل هذه التجارب الفريدة في العيش والسلوك، سلباً وإيجاباً، يكون كاتبٌ ما ملهِماً ومؤثراً في تغيير حيوات كثيرين من الأشخاص ذوي القابلية على التأثر وعلى تمثّل تجارب الآخرين الملهِمين، ولعل تجربة الفرنسي رامبو هي المثال الأوضح من حيث قابليتها على صنع وتغيير حيوات وسلوك أجيال من غواة الشعر والمنبهرين بالنزعة الرامبوية فيه.
الشخصيات التي ينتجها الأدب هي أيضاً قادرة على إلهام وتغيير حيوات كثيرين من المفتونين بسحر الأدب. ولعل شخصية زوربا، بطل كازانتزاكي هي المثال الأقرب على ما يمكن أن تفعله شخصية روائية في حياة قرائها. في هذه الحالة تكون الشخصية الروائية كناية كثيفة على قدرة الإبداع الأدبي ليكون مؤثّراً، إنها شخصيات أنتجتها الكتابة الخلاقة حتى وإن كانت شخصيات أشخاص حقيقيين، وليسوا من نسج الخيال، كما هو الحال بالنسبة لزوربا مثلاً.  تأثير هذه الشخصيات ما كان له أن يكون لولا مرورهم بسحر الكتابة.
ما بعد الحرب العالمية الثانية كان الأدب الأمريكي خصباً وهو وينتج تجارب، في فنون الكتابة وفي قوة تأثير الشخصية الثقافية، وقد أتيح لهذه التجارب أن تكون ملهمة لملايين الشبان، ومن بين من أنتجته أمريكا أواسط القرن الماضي كان جاك كيرواك.
يؤمن كيرواك أن” الأشياء العظيمة لا ينجزها أولئك الذين يستسلمون لنزعات الموضة والبدعة والرأي الشعبي”. لكن كيرواك نفسه أسهم بخلق الكثير من الموضات الثقافية، ونجح في أن يؤسس لرأي شعبي جارف في حينه.
إنه أحد الآباء الروحيين لجيل بِيت في الأدب الأمريكي آناء العقدين الخمسيني والستيني من القرن الماضي. ويُعدّ، ومعه بعض زملائه وفي المقدمة منهم الشاعر الن غينسبرغ، مَن (خلقوا) حركة الهيب في الستينيات الأمريكية، ولعلّ معارضته بعضاً من الجوانب السياسية الراديكالية للهيبز لا تثلم شيئاً في مسؤوليته وقيمته التأسيسيتين بين ملايين الشبان الذين وجدوا أنفسهم في لحظة تاريخية فارقة وكما لو كانوا أتباع ديانة أرضية جديدة، وكما لو أن كيرواك وزملاءه كانوا من أنبياء هذه الديانة، وربما كان تيموثي ميلر، وهو عالم دراسات دينية، من المبكّرين بنعت الهيبز بديانة جديدة. .
في مقال بعنوان (منهج في التكون الشعري) للشاعر والكاتب والناقد الأمريكي دونالد هول (توفي عام 2018) يرى أنه” تاريخياً، اتخذ الشعراء عمومًا أحد “وضعين” رئيسيين أو طبيعتين معتبرتين في صنعتهم؛ كان أحدهما هو الملهَم ، المجنون الرائي الذي يستلّ مواهبه من الآلهة في حالة من الإلهام والهيجان. تتوافق هذه التصورات مع المفهوم الشائع للشاعر باعتباره غريب الأطوار ذا الشعر الطويل”. بينما الوضع الثاني، حسب هول، فهو ما يشخصه” الرأي النقدي المعاصر (الذي) يتوقع من جميع الشعراء أن يتوافقوا مع الفئة التقليدية الأخرى ، فئة الحرفي الصانع دقيق”.
كيرواك الروائي والشاعر الأمريكي، وبرغم ترفّع تعبيره السابق على ما هو مشاع وعام ومشترك، إلا أنه، هو ذاته، عاش في جيل صاخب، فكان الجاز والمخدرات والسفر والفقر بعضاً مما يشركه باهتمامات هذا الجيل، إنه الأقرب لمفهوم (المجنون الرائي)، بتعبير هول.
كيرواك، كما كثير من زملائه، ركّز جهداً لافتاً في التعرّف على البوذية والإفادة من امتيازاتها الروحية، ومن جنوحها نحو قيمة السلام وبساطة العيش والزهد بالحاجات. وهذه تقاليد تسربت أيضاً إلى جمهور الهيبز، وحتى لاحقاً إلى جمهور عريض من الغربيين سواء ممن كانوا ناشطين كهيبز أو من غيرهم.
وإلى هذا فإن كيرواك كان واحداً ممن اندرجوا بأمريكا في موضة (الهايكو)، لكن امتيازه يعزوه زميلة غينسبرغ إلى كونه لم يتقيّد بالأصول اليابانية، أو الصينية، للهايكو وإنما عمد إلى أمركة الهايكو، إلى اختلاق جذر جديد له، بموجب سياقات اللغة الإنكليزية وآدابها، حتى إنه أسمى نصوصه (بوب)، كتسمية غربية مقابلة للهايكو الشرقي.
كان كيرواك ملهِماً من خلال نمط حياته أكثر مما كان عليه في الكتابة. 
في مقال دونالد هول، وقد نشر عام 1953 في (paris review)   يخلص إلى أن الشعراء المتفردين، عبر التاريخ، هم وحدهم تتداخل في تجربتهم الحالتان؛ أن يكون الشاعر مؤثراً عبر شعره، وملهِماً عبر حياته وتجربته الشخصية.