الوظيفة الشعريَّة في المجتمعات البدائيَّة

ثقافة 2023/07/12
...

 مورتن بلومفيلد

 ترجمة: أمجد نجم الزيدي

 لو أردنا استكشاف الوظيفة الشعريَّة للمجتمعات البدائيَّة المبكّرة، فبعض التصورات عن خصائص تلك المجتمعات ضروريَّة لنا، نظراً لأنَّ الشعر مندمجٌ بقوةٍ بتلك المجتمعات، وإن كان ليس بصورةٍ تامَّة، ولابد لنا أن نأخذ وجهة نظر جديدة لغرض فهمها، ونتجاوز قدر الإمكان الطابع الملح لوجهة نظر مجتمعنا. إنَّ المجتمعات المبكرة صغيرة جداً من حيث السكان والحدود الماديَّة من المجتمعات الحديثة. حتى أنَّ أصغر بلد حديث هو أكبر بمئات الألوف مقارنة بالمجتمع التقليدي الذي هو بالمئات. أما ديناميكيَّة المجتمعات التقليديَّة فقائمة على المكانة والدور. إذ إنَّ الجانب الشعبي مهم؛ ومشاعر الشرف والعار قوى اجتماعيَّة مهمة، والاحتفال والطقس الديني يعطيان الحياة إيقاعاً ووجوداً. إذ يشارك الجميع بهذه المناسبات، ما لم يُستبعدوا بسبب الشيخوخة، أو المرض، أو السلوك المشين. فالفصاحة، واحترام الذات، وتبجيل الرؤساء وأسلاف العشيرة، تعد خصالاً محترمة، هناك موضوعيَّة قارة تدير حياة الناس، فعلى الرغم من أنَّ هناك طرقاً تقليديَّة تعالج عادة تضخم النزعة الفرديَّة، تتمرّد روح الشخصيَّة الفرديَّة أحياناً. فغالباً ما يتم الانغماس بالتفاخر، مقارنة بالوجاهة، والتنافس، والتي تقتضي شعوراً بالتقدير العام. إذ يتم تحديد أنشطة الفرد إلى حد كبير حسب المركز والتقاليد.
 يعدّ الشرف والعار حارسين للتقاليد، فالفرد لديه إحساس قوي بشرفه، وما يمكن أن يفعله، وما هو واجبه تجاهه. فلو قال أحدهم للبطل الإيرلندي كوخولين (Cú Chulainn) “أعطني رمحك” فسيضعه فوراً بين عيني ضحيته. إذ إنَّ دور الفرد العام مهم، فالمديح والعتاب ملازمان طبيعيان لحسّ قوي بالدور، سواء كان الدور رفيعاً أو وضيعاً. لذلك فهناك قيمة اجتماعيَّة كبيرة للشعراء لأنهم خالقو الرأي والقرار الشعبي.
 يعتقد جوليان بيت- ريفيرز (Julian Pitt-Rivers)” أنَّ دلالة حضور الشخص مرتبطة بصورة كبيرة باحترامه، إذ إنَّ الإهانة تعدّ عاراً إنَّ قيلت بوجه ذلك الشخص، والتي ربما لا تعدّ كذلك إنَّ قيلت وراء ظهره... ما يعدّ إهانة ليس الفعل بحد ذاته ولكنه فعل إلزام الشخص المهان بأن يشهد ذلك. وهكذا فإنَّ تهديد شاعر القبيلة بالإذلال العلني لشخص ما حافز قوي للإيفاء بمقتضيات الدور. مع ذلك، ينبغي التأكيد على أنَّ جميع المجتمعات التقليديَّة تؤكد على الشرف وتوظيف العار إلى حد ما، لكن هذه السمات في المجتمعات التقليديَّة والمجتمعات التي نعنيها، هي سمات أساسيَّة. ففي بعض المجتمعات أيضاً، ينتقل الشرف، فالنصر على الخصم علناً، سواء بالكلمة أو الفعل، يزيد من شرف الشخص إلى الحد الذي يمتلك شرف من سبق وتغلب عليه، فبطل شهير في مجتمع الشرف- العار لن يهتم بمقاتلة شخص له شرف متواضع جداً، إذ إنَّ النصر عليه لن يضيف إلى شرفه شيئاً، إذ يتم التخلص من مثل هذا الشخص بسرعة.
 لن تعمل مزيَّة المديح والعتاب، كما يشير دومزيل (Dumézil)، ما لم تكن حقيقيَّة، فالمسألة ليست مدح أو عتاب أي “شخص ما”، إذ يجب أن يكون الادعاء حقيقياً بالمقام الأول، فهذه الرغبة بالدقة والحقيقة يمكننا أن نراها، كما يوضح دومزيل، في الإحصاء الروماني القديم، الذي اتخذ أساساً لإدراج الشخص أو الفعل أو الرأي في مكانه الهرمي الصحيح.
 إنَّ التركيز القوي على الأدوار في المجتمعات المبكرة تعني، طِبقاً لمواقعها، أنَّ البشر مطلوب منهم فعاليات محددة ومعروفة. إذن فالمديح والعتاب في مثل هذه المجتمعات سهل التخصيص، لأنه يمكن تقدير وتخصيص الفشل والنجاح بصورة أكثر دقة مما هو عليه في المجتمعات الصناعيَّة. يحكم على الرجل في المجتمعات المبكرة بصورة كبيرة بمعيارين: مكانة أسلافه وكفاءته في إنجاز متطلبات وتوقعات دوره. إذ سيخسر الرجل سمعته في دوره كمحارب، إن كان جباناً في المعركة. فلا يجب أن تكون هذه الإخفاقات متعمدة. تفشل الزوجة في دورها أيضاً بطريقة ما إن لم تتمكن من إنجاب الأطفال.
 إنهم مهتمون بأسلاف العشيرة أو الفرد لأنهم الأكثر أهميَّة، وكم كانت ذريتهم بمستوى الدور أو الأدوار المتوقعة من جميع أعضاء العشيرة. إذ إنَّ مصيرهم هو الانضمام إليهم لذلك يجب أن يكونوا جديرين، إن جاز لي التعبير، بدورهم كأسلاف، فهم حراس القبيلة والحكمة. فالحكمة فضيلة كونيَّة، توفر دليلاً للحياة اليوميَّة وتتيح لكل شخص أن يضفي نوعاً من المعنى خارج العالم. وعلى سبيل الاستعارة، فالحكمة هي الإسمنت الذي يبقي المجتمعات المبكرة معاً، وهو الزيت الذي يسمح لهم بالعمل بسلاسة. فهي تساعد الفرد على ما يسمى في المجتمعات الحديثة “العصاب”، وتسمح له بتجاوز القذارة والوحشيَّة والقابليات الضعيفة للحياة التي تهاجم الكائن البشري دائماً. وتؤازر النظام وتدعم الحكام، وبنفس الوقت، تجعل وبصورة قيمة كل الأشخاص، بمعنى معين إلى حد ما، متساوين في نهاية المطاف.
 بقتل فكرة الحكمة في الأوساط الفكريَّة، بدأ صعود عصر التنوير وعلم النفس الأخلاقي (psychologistic morality) لدى كانط، الذي يؤكد على التنمية الذاتيَّة، إذ بدت فكرة سخيفة أنَّ هناك أي شيء يمكن أن يعلمنا إياه الماضي، أو أنَّ هناك متناً للمعرفة المعقولة ستكون مفيدة لنا، فعلى الرغم من أنَّ تقدير الحكمة صمد في حدود ضيقة نسبياً في المجتمعات الغربيَّة الحديثة، فقد خسر سيطرته على قادة الرأي والمثقفين في القرنين (التاسع عشر والعشرين).
 كما أنَّ المجتمعات المبكرة آمنت بقوة السحر، حتى بعد أمد طويل من وصول المسيحيَّة إلى الغرب. ففي معظم المجتمعات التقليديَّة وشبه التقليديَّة يعدّ السحر جزءاً طبيعياً من الحياة. فمع استمرار تأثير التنجيم، والاستنباء (وتسمى أيضاً التغطيس أو الدوسرة وهي آليَّة استخدمت قديماً لمحاولة التنبؤ بوجود الماء أو المعادن كالذهب وغيرها، باستخدام عصي وأغصان الأشجار إلى آخره، أي توظيف القدرات الباراسايكولوجيَّة للإنسان في عمليَّة البحث تلك. “المترجم”)، والعرافة على مر القرون، والموجة الجديدة من الاهتمام بمثل هذه الفنون في أوساط الغربيين المتحضرين، إذ يمكننا القول إنَّ بعض المجتمعات الكبيرة واقعة تحت هيمنة السحر حتى الآن، فالاعتقاد بفاعليَّة وقوة اللغة في صميم الرؤية السحريَّة للعالم، إلى جانب الفكرة القائلة إنَّ الفعل المحاكي يمكن أن تكون له تأثيرات حقيقيَّة، يجعل من المصداقيَّة الأساس لكل نشاط سحري، بما في ذلك المعرفة بالمستقبل التي تسمى عادة نبوءة.