شجرة خيالات عمر الغدامسي

ثقافة 2023/07/12
...

 عزالدين بوركة

تتحول اللوحة في منجز الفنان التشكيلي التونسي عمر الغدامسي إلى حكاية بصريَّة ينتعش فيها الخيال، ضمن شجرة توليديَّة ثمارها لامتناهية الدلالة، إذ تتعلق بفروع متشعّبة ومتعددة الأصول، تعود جذورها بالأصل إلى أولى الحكايات، إلى الأفق البعيد في أعالي السماء الضاربة في أعماق الميثولوجيا الإنسانيَّة، إلى حكاية "آدم وحواء"، إلى شجرة المعرفة/ الخطيئة الأولى..
لقد تفرّعت كل أشجار وأنساب الخيال من هذه الشجرة العتيقة، المنصهرة في المخيال البشري، أو على الأقل الغربي/ العربي/ المشرقي.. ومن ثم منْ تبعهم في الاعتقاد والثقافة. يعمل الغدامسي في معرضه الفردي الجديد "شجرة الخيال" برواق ألف ورقة بالمرسى، تونس، على تعليق حكاياته البصريَّة في شجرة اصطناعية بقلب المعرض، على هيئات أثواب وألبسة غاصة بالرموز والألوان الزاهية والباردة والأشكال واللُقى الـمُلصقة بعناية، سنده في ذلك رؤيته الاستعادية للمنسي بصريَّاً ولغويَّاً وحكائيَّاً، سواء المتروك للنسيان عنوة أو الذي وجد لنفسه متسعا في لاوعينا الجمعي، حيث يستكين ويقيم ليظهر خفية من دون أن نستشعر قوته وأثره.
فـ "النسيان هو الذي لا يفْنى"، يقول برنار نويل. النسيان هو لامرئي الذاكرة، والأثر المخفي تحت طبقاتها.. والمقيم في حكايتنا الشعبية وثقافتنا الجمعية.. إنه المحرك الفعال لكل عملية تخييل.
يُشيّد الغدامسي معمار منجزه التشكيلي، بتراكمات طبقية حفرية للمنسي والمهمل، وأيضا للمتروك للنسيان في اللاوعي، يآلف بينهما ضمن استراتيجية بصرية قوامها منح العمل بدنا حيا وذكريات تتعدد تآويلها وقراءاتها، لا لغة واحدة لها، إذ تكاد تنطق بكل اللغات.
يصغي الفنان -إذن- إلى المتلاشيات والشظايا والصور والمشاهد الحيَّة التي يركبها جنبا إلى جنب، ويستنطقها.. وهي جميعا الآثار المشكلة لشجرة الخيال الإنسانيّة العتيقة، والتي تتطور وتتفرّع غصونها وتتنوّع ثمارها مع مرور العصور وتوالي الحضارات، لهذا نلحظ ونلمس ضمن اشتغاله التشكيلي، إحالات بصريّة بيزنطيّة وإسلاميّة ورومانيّة وأمازيغيّة وعربيّة وغيرها من الثقافات والحضارات التي شيّدت تاريخ تونس والمنطقة المغاربيَّة بامتياز.
وهنا مكمن المنسي بوصفه صانع لاوعينا الجمعي، لأنه تركيب متشظٍ يتنوع ويتعدد، لا يكاد يرجع لأصل واحد موحد، إلا ضمن أسطورة أو حكاية تحاول إعادته -عنوة- إلى جذر حكاية ميثولوجية وحيدة، إليها تنتهي كل الحكايات ومنها تبتدئ كل القصص والتراجيديات: الشجرة الأولى.
يسعى الغدامسي ضمن اشتغاله ها هنا، إلى إعادة النظر إلى تاريخ الشجرة الميثولوجي والشعبي والحكائي والبدائي، من وجهة نظر بصرية تستند أساسا على الفكر الرمزي والاستعانة بالملمح التشكيلي المعاصر الذي يمارس على الواقع كل عمليات الاستدراج والاستدماج في صلب العمل، باعتباره استعارات ومجازات حيَّة لا ألاعيب لغويَّة فيها. مما يعدد مصادر ومنابع الأصل، وينوّع الرؤى ويسمح بتنوع التآويل. وهو -أيضا- ما يمنح المنجز إمكانية البدء من الاعتبارات الملموسة والماديَّة لمحاولة فهم كيفية سطوة المنسي على مخيلتنا وواقعنا، وتفكرينا، ومن ثم على مخيالنا imaginaire الفردي والجمعي.
لهذا، تتحول الشجرة، في نظري، إلى ذريعة لمعلقات/ آثار بليغة وبلاغيَّة، مثلما هي الحال بالنسبة للمعلقات الشعريّة العربيّة القديمة.. وأيضا تستحيل شجرة الخيال "الغدامسية" إلى حقل حفريات أركيولوجي معلق على حبال غير مرئية، كأنّها جذمور يربط بين الأمارات (الألبسة في هذه الحالة) التي تبدو معزولة بعضها على بعض.
لهذا فالغدامسي يعمل على أخذ الكتب واللقى والفساتين المستعملة ومن ثم القيام بتحويل وظيفتها في ضوء مساحات اشتغال تشكيلي مختلفة، حيث يصبح الفن مظهرًا وتغطية ومسحًا وتوليفًا من أجل استعادة المعنى المفقود، المنسي في التاريخ واللاوعي. وهكذا يفعل الأركيولوجيون لاستخراج معاني ما يعثرون عليه من تفاصيل قلقلة، التي يولدون منها أشجار أنساب، ويؤسسون عليها مخيلة حضارات منسية تحت الأنقاض والتراب.
تُنوّس لوحات عمر الغدامسي معاني ودلالات شجرته ذهابا وإيابا بين الماضي والحاضر، بين المنسي تاريخيا والمنسي راهنيا (اللامرئي بفعل الافراط في رؤيته)، بين استجلاب الآثار بعدها أرشيفا بشريا، وتدوير اللقى بوصفها شواهد العصر. كل ذلك ضمن استدماج تشكيلي يهب العمل الملمس الخشن ويمنحه روحا حيَّة وبدنا يتنفّس، ويصنع له ذاكرة مشبّعة بـ "المنسي (ات)". إذ إن النسيان، مثلما يحدد نويل، "يرفض الموتَ على الدوام"، إنّه بهذا المعنى خارج دوائر الزمن. لهذا تقاوم كل الحضارات الموت بأن تدفن تاريخها أسفل التراب: في أعماق النسيان. وكل ما يجعلنا نحيا هو اللاوعي: أرض النسيان الشاسعة.
يعمد الفنان -إذن- في معرض هذا، على جعل المتلقي أمام مشاهد حكاية وبصريّة للمنسي، لكن من دون أن تمنحه أي سبيل للمعنى المباشر والسهل، إذ تحصّن نفسها وحياتها بحقول التأويل الشائكة والعصيَّة، الحافلة بالدروب التي لا تقول لأي مخرج سالك، نوع من المتاهة التاريخيَّة على سند ثنائي الأبعاد، أو معلّقات تسبح في الفضاء مدججة بالرموز والكتابات والكائنات الميثولوجية، من ملائكة وغيرها، والشخوص التاريخيّة والخرافيّة والأسطوريّة والدينيّة.. المشيّدة لشجرة خيالنا المحلي والكوني.