عن النص المفتوح في قصيدة النثر

ثقافة 2023/07/17
...

 د. تغريد خليل الشويلي

يبدو أن عنوان ديوان قصائد نثر (نزهة في مرايا الأثر) للشاعرة آلاء الطائي يحاكي الطبيعة الإنسانيّة في كل صورها وتجربتها الشعورية، أي أنه يكشف مكنونات الذات وصراعها مع الآخر، فضلا عن ذلك ما تعانيه هذه الذات من مشاعر الحزن والألم والضياع والاكتئاب والاغتراب، في واقعها المؤلم الذي تعيشه على وفق الأحداث المتنامية والمتأزمة المحيطة بها.

واللون البارز في عتبة الغلاف لهذا الديوان هو اللون الرصاصي المزيج بين اللونين الأسود والأبيض، إن تمازج الالوان (الرمادي والأبيض والأصفر والأحمر والبرتقالي) وتواشجهما جعل من عتبة الغلاف دلالة رمزية على تصارع الأفكار والأحاسيس وتألمها ويظهر ذلك واضحاً في المشاعر الوجدانية والانفعالات الشعورية التي ركزت عليها الشاعرة وذلك عبر دلالات المتن الشعري ومكنوناته الرامزة إلى قوة الشعور بخفايا النفس ومكامنها الداخلية التي تتأثر وتتآثر بوقوع الأحداث ودينامية مشاهدها المكانية والزمانية من جانب، وتفاعل الذات وتصارعها مع الآخر تفاعلاً له القدرة الكبيرة على الإيحاء برموز عتبة الغلاف وإشاراته المقصودة. 

ويتمثل ذلك في قصيدة (مطلعُ الأنين): ((أعطني إياها/ تلك أجنحتي../ أسكبني على امتداد بقاياك الهائمة/ كوسادة ريش/ تحلق برأسي المثقل بالخوف/ على مدار جُرحي القاحل/ عند الفجر/ لتطرق أبواب السماء.. تعتلي صهوة اليباب/ بدعاء متعطل / شاحب حتى مطلع الأنين))(1). ترسم الشاعرة صورة جماليّة تعبيريّة مكثفة تنبئ عن إيحائيَّة عتبة العنوان (مطلعُ الأنين) ورمزيته، إذ يتكون من تركيب لغوي (جملة اسمية) تتضاعف قيمتها التأويلية حين تستعمل كل دلالاتها وتأويلاتها الايحائيّة عبر سلسلة منظمة من الالفاظ الدالة على المعاني المكثفة لمفردة الأنين التي تتركز في كل ((ما يَصْدُرُ عَنِ الإِنْسانِ مِنْ صَوْتٍ خافِتٍ في لَحَظاتِ الألَمِ والتَّوَجُّعِ. 

أَنَّ الرجلُ من الوجع يَئِنُّ أَنيناً))(2).  فهذه المعاني تمثل صورة إيحائية رمزية، عبرت عن المكنونات الحقيقية لآلام الذات وتجربتها الشعورية يتضح ذلك بقولها: (تحلق برأسي المثقل بالخوف على مدار جُرحي القاحل عند الفجر)؛ ليتشكل أغنى انفتاح نصّي في تأويل الرمز والدلالة، وأكثر قوة تعبيريّة على توليد انتاج ظلال المعنى، ومن هنا نستشف دلالة عتبة العنوان في أغوار المتن الشعري التي تقصدها الشاعرة ألا وهي معاناة الواقع المرمز بالخوف والقلق والصوت الأنين من الشدة الألم والجُراح، فالشاعرة تستظهر هذه الانفعالات والمشاعر الوجدانيّة على لسان ذات متألمة من الوحدة والاغتراب، التي اختارتها الشاعرة قناعاً تأويلياً مناسباً للواقع المظلم المؤطر بالخوف من المجهول والضياع.

نجد أنَّ الاستهلال النصّي التشكيلي ذات الطبيعة التركيبية بصيغة فعل الأمر الإيحائي بقولها: (أعطني إياها تلك أجنحتي... أسكبني على امتداد بقاياك الهائمة كوسادة ريش)؛ ليدل هذا الاستهلال بفعلي الأمر (أعطني، أسكبني) دلالة واضحة على صراع الذات وانتفاضها، ويحضر في هذه الدلالة الرمزيّة تقابل تأويلي بين الحزن والفرح والخوف والأمان واللَّذَّة والألم على نحو مؤثر ومتكامل.فقد عمدت الشاعرة إلى رسم صورة حزينة متصلة في مجرى الواقع المؤلم تحرك العواطف وتهز المشاعر الذاتية في جو استيهامي تأويلي تجسد فيه الشاعرة طابع الصراع الذاتي الناتج عن التقابل التأويلي بين الواقع المؤلم المتصف بالأنين والاكتئاب والتوجّع، والواقع الجميل في خيال الذات وذاكرتها واقع الحياة والنجاة والسعادة وتحقيق الآمال، فقد وظفت الشاعرة في متنها الشعري المفردات التأويليّة الرامزة إلى واقعها المؤلم بقولها: (لتطرق أبواب السماء.. تعتلي صهوة اليباب، بدعاء متعطل شاحب، حتى مطلع الأنين)، وهي مفردات تحمل معنى جهوري يوحي بتداخل الأنين والخوف والاغتراب وكأن الشاعرة تعلن عن تمسك الذات بآلامها واحزانها والتصاقها بها. 

وفي ضوء ذلك يمكن القول: إن عتبة العنوان المرمزة إلى مكنونات المتن الشعري وخفاياه قد شكّل نسقاً دلالياً منفرداً؛ يوحي بصورة كبيرة بتعالق الترميز العنواني مع التأويل الدلالي في النص الشعري، وذلك؛ لأن المتأمل في النص يحتله صوت الأنين والآلام بما فيها من رموز وإشارات إيحائيّة تدل دلالة واضحة على معاناة الذات وشعورها بالاغتراب الذاتي.  إذ تقول الشاعرة: ((وأنا أجوس/ ديار خوفي وذياك الغروب الواجم/ يأخذني على محمل الغموض/ يجيء بي خلسةً على خطى الاحتراق/ دونما خفوت/ يعتري أشلاءه الصدى/ ويحتضن رماد لقاءاتنا المعطلة..))3). 

تتجلى الحسرة العميقة من استحضار صورة الواقع المؤثر؛ لتجسد عبره عمق الألم وشعور الذات بالخوف والقلق من المجهول بقولها: (وأنا أجوس ديار خوفي وذياك الغروب الواجم)؛ إذ ترسم الشاعرة صورة التأويلية تسم اسهاماً واضحاً في اثراء النص الشعري معتمدة على ضمير (أنا) في لغة التخاطب خطاب الآخر، فهي عبر هذا الضمير تظهر عاطفة الذات الجياشة واغترابها في الواقع الذي تكابد العيش فيه. 

ومن هنا فلغة الخطاب هذه قد رمزت إلى دلالة نفسية مكثفة تبين وتفسر توظيف الشاعرة للذات المتألمة والخاضعة لواقعها المرير الذي فقدت في الشعور بالأمان والاستقرار ليظهر صوت أنينها المتوهّج بالحزن والاكتئاب عبر الكلمات (خوفي، الغروب، الغموض، الاحتراق، رماد)، ليتمكن المتلقي من تمثيل الصورة الإيحائيّة المؤدية الى مقصدية الشاعرة وافصاحها عن مشاعرها وعواطفها الذاتية. وعليه فلا تتوقف الشاعرة عن تكرار الكلمات المرادفة للخوف والحزن والاغتراب؛ لأنّها مركز النص الشعري وجوهره، لذلك تكررها بتأويلات متباينة، وذلك لغاية قصدية تكمن في تحقيق تناغم ايقاعي حزين؛ يثير انتباه المتلقي ويحرك مشاعره بأدق صورة ايحائية وتأثيرية متناسقة الالفاظ والدلالات الحزينة المتوالية توالياً متنامياً لتؤدي المعاني المطلوبة وتوصيل ما تريده الشاعرة الى المتلقي.إذ تقول الشاعرة: ((من تملأ أرجاء النجوى بألف دمعةِ همسٍ مائته/ تتجرع زعاف سمه عند قارعة اللوعة/ تصرخ دون صدى/ جائر أنت/ دون ظل لهجير خطواتكَ وسط حشود الزفرات ومآقى/ السكات/ حتى انقطاع الأنين))(4).لقد وظفت الشاعرة المفردات الدالة على الثورة وصراع الذات مع نفسها تارة، ومع الآخر المناقض لأفكارها ومشاعرها تارة أخرى، كأن يكون واقعها المظلم الذي تعيش فيه وتعاني وتتألم، بصورة توحي بثورتها وانتفاضها من داخل أغوار ذاتها، أي عدم قدرتها تحمل الظلم وصوت الأنين وصراع الذات وتهميشها، ومن هنا تعلن صراخها وثورتها بوجه الجور والظلم والتهميش حتى انقطاع الأنين، بقولها: (بألف دمعةِ، تتجرع قارعة اللوعة، تصرخ دون صدى، جائر أنت دون ظل، حتى انقطاع الأنين)، وهو توظيف ذات انماط صوتية اهتزازية، توحي بالانفعال والثورة والصراع مع الآخر المهمش لذاتها. فالذات الشاعرة تعبر عن انفعالاتها ونوازعها الذاتية عبر هذا التنسيق اللفظي المؤطر بنبرة صارخة حزينة، ومتواجشة دلالياً مع رمزية العنوان (مطلع الأنين) وعلاماته التأويلية لإظهار المعاني المقصودة، ومنح النص الشعري البعد التأثيري لاستمالة المتلقي وإثارة مشاعره الوجدانية. ومن ذلك فقد جسدت الشاعرة في نصها الشعري التقابل التأويلي، الذي لا يفارق في مضمونه بين داله ومدلوله، فالدال هو الألفاظ التركيبية الدالة على الأنين والصراخ والبكاء والثورة على واقعها المرير، والمدلول هو شعور الذات بالاغتراب والاكتئاب والحزن والألم، أي من شدة معاناة الذات وحزنها بدأت بالصراخ والانتفاضة ضد هذا الواقع المؤلم حتى انقطاع الأنين الصوت الخافت، وما يدل على ذلك أسلوب الخطاب خطاب الذات والآخر في الوقت نفسه، الذي يتواشج في مكنونات النص الشعري وخفاياه، وذلك لاعتمادها على التعبير الوجداني المرتكز على الحس الذاتي المباشر الذي ينشأ عن انفعالات تلقائية عفوية.  وتأسيساً على ذلك يمكن القول: إنَّ أسلوب الخطاب (مناجاة الذات وحوار الآخر) في الوقت ذاته، قد أسهم اسهاماً كبيراً في الكشف عن طبيعتها السيكولوجية وتجربتها الشعوريّة. الأمر الذي يلهم المتلقي بمعاناة الذات وشعورها بالضياع في واقعها المؤلم الذي تعيشه، وتصارع أحداثه المتأزمة المحيطة بها، وعليه بوساطة العرض الدينامي والدلالي لرموز النص الشعري وأدواته وأساليبه اللغويّة المتقنة، نجد أنّ عتبة العنوان تتداخل مع رموز المتن الشعري ومكامنه الدلاليّة تداخلاً واضحاً وهادفاً.

الهوامش

(1) نزهة في مرايا الأثر: آلاء الطائي: 40.

(2) لسان العرب، ابن منظور، مادة (زبع).

(3) نزهة في مرايا الأثر: آلاء الطائي: 40 - 41.

(4) نزهة في مرايا الأثر: آلاء الطائي:41.