إعادة إنتاج وقراءة التاريخ بواسطة الخيال الأدبي

ثقافة 2023/07/17
...

 محمد حاذور

كل أمة لديها تاريخ تقف عليه وآخر متمثل بصورتها وغير ذلك ما تجهله من وقائع وأحداث غير مؤرخة لكنها، أي الأحداث المهملة، تحضر رغماً عن طمسها أو نسيانها والتغاضي عنها وتجاهلها. ثمة أمم معاصرة، قائمة وتعيش على نتائج التاريخ المصنوع بمعية السلطان وحاشيته، وليس ما وقع حرفياً، لأن «التاريخ الحقيقي، لا يكتب، لأنه ليس في عقول الناس، إنما في أعصابهم وقلوبهم» بحسب رؤية الفيلسوف ألفرد نورث هوايتهيد، وأمم أخرى تخلصت من سطوة الماضي وما يبتغيه السلطان وحاشيته واختارت تقرير مصيرها بنفسها.

مشكلة الفكر العربي طوال قرونه الأربعة عشر، تنشأ جذورها من القرون التأسيسية الأولى (وهذه تحتاج لوقفة مستقلة)، لأنّها الفترة التي وضعت فيها الإطار الفكري والثقافي للعرب طوال الفترة الماضية الممتدة لأربعة عشر قرنا، وليس من قبيل المبالغة أن ما أسس في تلك الفترات ما زال راسخاً وبقوة في الوقت الراهن على صعيد المجتمع وكافة حقوله الثقافيّة. وعن الجهل بالأحداث التاريخيّة يقول كارل ماركس: «إنني قادر على فهم قوانين الرياضيات، لكن حيال أبسط الوقائع التاريخيّة التي تتطلب الحدس، أجد نفسي وضعيَّة صعبة، مثل أغبى الأغبياء». فالجهل بالتاريخ، تاريخنا العربي، تكاد تكون مشكلة الفرد العربي بنسبة كبيرة جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار، على الأقل، ما حدث في القرن العشرين. في العصر العباسي الإسلامي، عصر الإشكالات الأكبر، بدأت عملية التدوين وصناعة التاريخ، وهو عصر الإسلام الذهبي من دون الإغفال عما وقع فيه من ظلم وإجرام. وما يهمنا هنا من العصر العباسي، هو الزمن الذي أسس للمدوّنة التاريخيّة المنقوصة والمحروفة والمبتدعة. في تلك الفترة جرت أحداث كبرى، لم تؤرخ كما حدثت: كان للسلطان وحاشيته تعليق ورأي، وتحريف وتشويه. وبالمجمل، الزيف والتشويه في تاريخنا، إذ أردنا أن نعطي صورة واضحة وقريبة، فهما يتمثلان بصورة كبيرة وواسعة في الفكر العربي في القرن الواحد والعشرين. مثلاً، يتتبع جورج طرابيشي في كتابه «المعجزة أو سُبات العقل في الإسلام» مسار التضخم الذي حصل مع معاجز النبي محمد. تبدأ معجزات النبي في سيرة ابن هشام التي كتبت في القرن الهجري الثالث، عشر معجزات فقط، حتى يصل إلى سيرة الحلبي المكتوبة في القرن الحادي عشر فتصل إلى ثلاثة آلاف معجزة. ولهذا التاريخ الملغوم وفائق الحساسيَّة بما فيه من خطورة كبيرة، أنتجت له العلوم الإنسانيّة عشرات من النظريات والمناهج من أجل دراسته ونبشه والوقوف على مجرياته وكشف ما تمَّ التلاعب به.

يوضح الكاتب والباحث محمد فاضل المشلب في مقدمة كتابه “تخييل التاريخ في الرواية العربية (2019 - 2000) الذي صدر مؤخراً عن دار شهريار، وهو بالأصل أطروحته للدكتوراه: “هذه رحلة معرفية في موضوعات التاريخ العربي والإسلامي، عن طريق فن الرواية وتقنياته في طرح خطاب بديل لا يشابه ما قدمته المدوّنة التاريخيَّة القديمة، فكان السؤال، لماذا يذهب الروائي إلى التاريخ ويقول ما كان من المفترض أنه قد قيل وانتهى..؟ فهل كانت مدوّنة المؤرخ ناقصة في أحد جوانبها، أم أن ما كتب وروي هو غير ما حدث فعلاً، أم يريد الروائي خوض لعبة سردية بموازاة النص التاريخي قصدها تفكيك خطاب المؤرخ وإظهار عدم كفاءته بوصفه عالماً، بل وحتى إظهاره غير نزيه، بعد أن يضع (الروائي) موشور التخييل؛ بغية تفكيكها وحتى محاكمتها؛ بوصفها بحثاً عن معنى باهظ في الحقيقة، فعن طريق التخييل لا تكون العقبات كبيرة، بل تنهار كثير من دفاعات المدوّنة التاريخيّة المعتمدة على ماضويتها، والنظرة المصطبغة بالقداسة بوصفها انتماءً إلى زمن الأسلاف”. والسؤال الذي ينبغي طرحه على الروائي، ما هي الحاجة الملحة التي حرّضته لأن يذهب نحو مدونات التاريخ البعيدة والملغومة بالزيف مع تسلّحه بالخيال والخوض بكتابة أدب عماده النصوص التاريخيّة؟ إنّها، بصورة من الصور، “إعادة إنتاج الأصل” كما يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. وأيضا، “إبداع المفاهيم” بتعبيره أيضا. يجلس الروائي، بالقرب من منزلة المؤرخ والاشتباك معه بتقديم صورة أخرى عن المدونة، لأن المؤرخ لم يكتفِ بتدوين ما جرى، إنما تدخلت ذاته بصور عدة، منها ما يمليه عليه سلطانه وما تفرضه عليه إيديولوجيته الدينيّة والمذهبيّة والفكريّة. فضلا عن ذلك، يحاول الروائي، إنتاج أصل، مخفف من حمولة التقديس المرتبطة بالماضي، وتقديم رواية مناسبة لدوائر القراءة وإشراك المتلقي بالنظر إلى التاريخ دونما تحفظ وخشية. وبصورة موجزة، لتوضيح معنى “تخييل التاريخ” يقول الكاتب: “هو دينامية المَكْر الفكري والإبداعي الذي يحرك الروائي -بحسب المحيط التخييلي- للذهاب إلى التاريخ، حكايات ومرويات وأخبار وجلبها إلى عالمه السردي الخاص به؛ وخلق نص موازٍ لما قدمته المدوّنة التاريخيّة المراد التفاعل معها وتفكيكها وتكذيبها، أو قراءتها واستثمارها من منظور يختلف عن المنظور الذي جاء فيه المؤرخ”. ومن ضمن مقاييس اختيار النصوص الروائية التي تدخل في خارطة مصطلح “الرواية التاريخية”، استعان محمد فاضل المشلب برؤية الناقد الأمريكي “أفروم فليشمان” بقوله: “تُعد الرواية، رواية تاريخية شريطة أن تقع أحداثها في فترة تعود إلى ما يتجاوز عدداً اعتباطياً من السنوات، على سبيل المثال 40  -  60 سنة، أي جيلان”.

درس وتفحص وحلل “المشلب” الكثير من النماذج الروائية التي تقترب من الأربعين رواية. وتقريباً، شملت أغلب البلدان العربية، نذكر منها، “أعدائي” للروائي السوري ممدوح عدوان، “حجاب العروس” للروائي العراقي محمد الحمراني، “شوق الدرويش” للروائي السوداني حمّور زيادة، “موت صغير” للروائي السعودي محمد حسن علوان، و”نادي السيارات” للروائي المصري علاء الأسواني.

جاءت نتيجة الفحص والتحليل للروايات، بثلاثة فصول، مع وضوح عناية الباحث بتحليلاته التي تضع الضوء على مضامين النصوص، فضلا عن الانتباه بعدم الوقوع بالإسهاب متلافياً إرهاق النصوص بما لا يتواءم معها، فكان اختيار المنهج التحليلي مناسباً للبحث والنصوص المرتبطة به.

في أول الفصول الثلاثة، المعنون “التاريخ من أسفل.. التاريخ من فوق” ينطلق “المشلب” متسلّحاً بالمفهوم الجديد في قراءة التاريخ. في “التاريخ من أسفل” قراءة وتحليل للمتن الروائي الذي تناول الطبقات المغيّبة والمسحوقة، وأيضاً العبيد والخدم والنسوة المبتلاة بالتعسّف والاضطهاد. إنّها قراءة للمتن الذي يعيد الطبقات التي همشتها السلطة وزعاماتها وطمست ذكراها من أجل إعادتها إلى الواجهة بوصفها حيوات إنسانيّة تستحق طرح الرأي والاشتباك بمجالات الحياة وأيضاً كتابة التاريخ، لأن المثقف والسلطة يتشاركان بكتابة التاريخ، وكذلك بتغييب الهامش، والأخير يوضع خارج التاريخ. لكن عملية التغييب، إذا وُضعت بالمعيار الموضوعي، ستنقلب على نفسها. بمعنى، سيكون غياب الهامش عن التاريخ، نقطة إدانة للسلطة والمثقف ومدونتهما: فكان هذا الغياب أكبر حافز للنظرية والنقد وكذلك المخيال الأدبي، بزحزحة المؤرخ ومدونته عبر إنتاج نصوص ونظريات ونقود تسمح بفتح نافذة التاريخ على مصراعيها كيما تبدو الصورة جلية ومناسبة لتكوين وجهة نظر موضوعية.

في الفصل الثاني “تدنيس المقدس وديمقراطية المحكي” تناول “المشلب” في المبحث الأول التاريخ عن طريق الجسد، الجسد بوصفه لوح يحتفظ بتاريخ ما مرت به البشريّة من مجاعات وحروب وظلم واضطهاد وأيضاً انعطافات جذريّة لها حصة كبيرة في تغيير مسار البشرية، وكل ما تعرض له الجسد طوال تاريخه لا يوازي ما فعلته الكنيسة وكهنتها بالاشتراك مع القبيلة وأعرافها، عندما صار الشرف مرتبط بالجسد وأعضائه، وتاريخ غسل العار وتطهير الشرف واسع على سعة الجهل. فضلا عن ذلك، فإنّ تاريخ الجسد، هو تاريخ الحضارات وما شيدته على أكتاف العبيد والخدم، فضلا عن التعذيب والسجون والإعدامات. ونذكر هنا المحقق العراقي الراحل “عبود الشّالجي” الذي ألّف كتابا في غاية الأهمية “موسوعة العذاب” بسبعة مجلدات، أرّخ فيها للعذابات التي نالت من الناس في التاريخ العربي الإسلامي منذ بدايات القرون الهجرية الأولى.

جاء الفصل الثالث والأخير “أحداث التاريخ من الخلفيّة الزمنيّة إلى المسافة الجماليّة” في قراءة النصوص الروائية وتحليلها باستخدام المنهج الحجاجي. يقول المشلب: “يهدف هذا المبحث إلى الوصول لعدد من العينات الروائية المعنية بالتاريخ العربي، التي اشتغلت على توظيف الحجاج بوصفه تقنية يلجأ إليها الروائي أثناء خلق عالمه الحكائي؛ غاية منه في تغيير فكرة لدى إحدى شخصيات عالمه التاريخية، أو تهميشها عند القارئ، أو التلاعب في مسار التاريخ عموماً لدى شخصيات التاريخ المصاغة بشكل رواية، على وفق توظيف الحجاج لإنضاج تلك الأفكار وغيرها.”.

والحجاج بتعريف الفيلسوف شاييم بيرلمان: هو دراسة تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يُعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم. بمعنى أن الحجاج يبحث في الخطاب الذي ينطلق، بنسبة كبيرة، من منطقة عليا، من سلطة، من أبوية. يراد بالخطاب أن يُسمع ويقنع ويكون على قدر كبير عند المتلقي. إذن، يدرس الحجاج المنطقة الواقعة بالمنتصف بين السلطة بكافة صورها وتمثلاتها والطرف الثاني المتمثل بالأسرة، والقبيلة، والجماعة، والطائفة،

والأمة.