خيري الذهبي عاشق تفاصيل بلده

ثقافة 2023/07/18
...

 علي العقباني

ترجَّل خيري الذهبي الكاتب الروائي والتربوي والسيناريست والبحاثة والعارف والقارئ الأصيل للتاريخ وفن الرواية والقص، والواعي الذكي لديناميات التبدلات الاجتماعية في المدن التي كتب عنها وعن أحوال ناسها، والعاشق الغارق ببحر سيرة دمشق، وعوالمها، وتاريخها القريب والبعيد.
غادر الذهبي دمشق إلى مصر، في بداية ستينيات القرن الماضي، وهناك تلقى تعليمه الجامعي في جامعة «القاهرة»، وتخرج فيها حاملًا الإجازة في اللغة العربية، وتتلمذ أدبيًا على أيدي كتاب كبار أمثال نجيب محفوظ وطه حسين ويحيى حقي.
ثمَّ عاد إلى دمشق، ليعمل مدرّسًا لمادة اللغة العربيّة في مسقط رأسه، ومن ثمّ في مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا، إلى أن التحق بخدمة الجيش الإلزاميّة، حيث فُرز كضابط ارتباط مع قوات الطوارئ الدوليّة على خط الهدنة مع “إسرائيل” في الجولان المحتل، ووقع أسيرًا لدى جيش العدو الإسرائيلي، خلال حرب تشرين الأول 1973.
واستمرت مدة أسره 300 يوم، وثقها في كتابه “من دمشق إلى حيفا 300 يوم في الأسر الإسرائيلي”، ليعود بعد تحرره من الأسر إلى دمشق مُسهمًا في حركتها الثقافية والفنية، قاصًا، وروائيًا، وكاتبًا مسرحيًا ودراميًا، ومترجمًا عن اللغة الإنجليزية، ومشاركًا في تحرير العديد من الدوريات الثقافيّة السوريّة.
ومن الروايات التي كتبها الذهبي: “ثلاثيّة التحوّلات” التي كانت تضم ثلاثة أجزاء هي، “حسيبة” عام 1987، و”فياض” عام 1989، و”هشام أو الدوران في المكان” عام 1997، و”فخ الأسماء” عام 2003، و”لو لم يكن اسمها فاطمة” عام 2005، و”صبوات ياسين” عام 2006، و”رقصة البهلوان الأخيرة” عام 2008، و”الإصبع السادسة” عام 2013، و”المكتبة السريّة والجنرال” عام 2018.
ثم أصدر عام 2019 كتابه “من دمشق إلى حيفا 300 يوم في الأسر الإسرائيلي”، الصادر عن “منشورات المتوسط” في ميلانو، ونال عليه جائزة “ابن بطوطة لأدب الرحلات” في العام نفسه.
وللكاتب أيضًا مجموعة قصصيَّة تحمل عنوان “الجد المحمول” عام 1993، ومقالات مختارة بعنوان “التدريب على الرعب” عام 2006، وكتاب “محاضرات في البحث عن الرواية” عام 2016. ومن ترجماته، كتاب “قصص من بلغاريا”.
كما كتب العديد من الأعمال الدرامية للتلفزيون السوري، منها، “ملكوت البسطاء”، و”الشطار”، و”وردة لخريف العمر”، و”رقصة الحبارى”، و”حسيبة”، و”ملحمة أبو خليل القباني”،
أطلق خيري الذهبي ما بين 1987 و 1997 ضمن مشروعه الروائي ثلاثة من أعماله (حسيبة وفيّاض وهشام) بعنوان مشترك (التحوّلات) جعلت الشام ساحتها التي تطرح فيها أسئلة الوجود الحضاري- السياسي، واتخذ الروائي أسرة في حي دمشقيّ عريق: (القنوات) بؤرة انداحت في شبكة علاقات إنسانيّة تنامت أو تقاطعت مع أجيالها منذ عشرينيات القرن العشرين حتى السبعينيات فيه، لكنّ رواية (لو لم يكن اسمها فاطمة/ 2005) غيّرت الأعمدة الثلاثة لتكون - في رأينا- الرابعة ولتشكّل اكتمالاً وبلورة، وتشدّنا إلى الوحدات السرديّة ومحمولاتها، وترتفع بالترميز إلى ذروة لا تلبث أن ترسل إشاراتها لنقرأ المسارات السابقة بألوان كاشفة.
حول مفهومه العميق للرواية من بداياته الأولى والذي تضمنه كتاب نبيل سليمان “حوارية الواقع والخطاب الروائي” ويقول فيه:
«لا شك أن الرواية كجنس أدبي معاصر، وبالنظرة الأوروبية للرواية فن حديث الورود إلى سورية. وقد يستطيع الدارس الأدبي العودة إلى الثلاثينيات سعياً وراء رواية نشرت في ذلك الحين مثلاً، ولكن هذا لا يعني أنّها قد رسّخت جذورها، أو أنها قد بدأت العطاء على الأقل. أما الرواية لدارس التاريخ الأدبي بمجمله فلها جذورها الطويلة والمتشكلة في حينها، ولكننا ربما لم نسمها رواية حسب مقاييس الجنس الأدبي المعاصر، ولكننا لو نظرنا إلى مقامات الهمذاني مثلاً أو الحريري، وانطلقنا من منظور أن البطل وظروف المجتمع وتركيبته المتنوعة المختلفة، لعثرنا على شكل جديد – قديم من أشكال البناء الروائي. الأمر الذي أدركه الشدياق جيداً، فكتب رائعته المعروفة – الساق على الساق فيما هو الفارياق – ولكنه أثقل كتابه بالاستطرادات والاستعراضات اللغوية فأضعف من إحساسنا بالتوتر الدرامي في الرواية، ثم جاء أميل حبيبي فوضع روايته المعروفة – المتشائل – والتي نهل فيها من المقامة نهلاً واسعاً وخلاقاً. وهنالك أيضاً ألف ليلة وليلة رواية العرب الأولى والأجمل، وهذا شكل جديد ورائع من أشكال البناء الروائي، ثم هناك الملاحم الشعبية. كالملك الظاهر وسيف بن ذي يزن، وحمزة البهلوان إلى آخر هذه الملاحم الروايات.
كل هذه الأشكال من البناء الروائي – وخاصة حين تقدم الغرب فنقض ما بناهُ في القرنين الأخيرين من إحكام بناء المعمار الروائي، إن في استخدامه تيار الوعي والتداعيات كما لدى مسز وولف وجويس، أو في تحطيمه البناء نهائياً كما في ما يسمى بالأنتي رومان لدى ناتالي ساروت، وآلان روب غرييه، أو في استخدام ما يسمّى بنسبيّة النظرة إلى الحياة في الأدب، كما لدى لورانس داريل في “رباعية الإسكندريّة”. كل هذه الأشكال تدعونا إلى محاولة البحث عن شكل أصيل للرواية في العربية مستفيدين من الأشكال التي قدمها الأجداد، ومن العلوم التي قدمها الغرب المعاصر، من استخدام لعلم النفس، وعلم دراسة أصول الأجناس، هذا فضلا عن سكب هذا كله في إطار رؤية سياسيّة مستقبليّة وواضحة”.  توفي الكاتب والروائي السوري خيري الذهبي في باريس يوم الاثنين 4 من تموز عام 2022، عن عمر ناهز الـ 75 عامًا، وهكذا فقدت سورية والعالم والفن الروائي كاتبا أفنى حياته في تفاصيل اكتشاف بلده والحياة
والتاريخ والفن.