د. علاء كريم
تشكلت العديد من الثقافات عبر تحويل الأحداث التاريخية وأشكال التراث إلى ظواهر مسرحية لم تكن موجودة، أو بوساطة الأشكال ما قبل المسرحية. وايضا عبر ما جسده الأداء الفني الشعبي الإغريقي كـ "الديثرامب، أو الديثراميوس وهو الكورس الترتيلي، الذي يرتل القصيدة أو المرثية أو الصلاة، التي تشمل تراتيل دينية ترافقها رقصات غنائية، وبالتالي يمثل ذلك المسرح الإغريقي مظهرا واضحاً من مظاهر الحضارة الاغريقية. فضلاً عن وجود أشكال مسرحية تجسدت في أوروبا وحتى في بعض البلدان العربية.
هناك من يؤكد أن هذه الأشكال لا تنتمي إلى فن المسرح؟ وذلك بسبب غياب النص الدرامي، وأيضا بسبب الاختلاف في اللغة، وفي الصور السردية التي تمثل الحدث الحقيقي أو نوع الموروث المرتبط بالأداء، الذي يفتقد إلى العديد من الأدوات. فضلا عن الاختلافات في العامل النفسي والبيئي، ومجموعة العادات والتقاليد التي يتمسك بها الفرد، والتي تلامس الماضي وما يتضمنه من صور تمثل مأساة عالقة في الذاكرة، حتى وإن حملت بعض العناصر الجمالية.
وهناك بعض الاشكال التي عدت من المظاهر الأساسية في تجسيد التاريخ وقراءة ما مر به من أحداث، ارتبطت بالحياة الاجتماعية للعديد من البلدان العربية والأجنبية، ومن هذه المظاهر "مسرح التعزية" الذي ارتبط بـ "عاشوراء" وواقعة الطف التي عكست الأحداث عبر توظيف التعزية، التي هي طقوس شعبية جسدت على شكل تشابيه أدائية قريبة بفكرتها للعرض المسرحي، وتستند إلى تفاصيل مختلفة، منها: الرؤية الدينية وتجميع صور الذاكرة الجمعية، التي تمثل فعل الدم لذكرى استشهاد الإمام الحسين. لذا هناك من يقارن مسرح التعزية بالتراجيديا اليونانية، أو النصوص الدينية البابلية، أو حتى مسرحيات الأسرار الدينية أو الأخلاقية، التي كانت تعرف في أوروبا القرون الوسطى.
في السنوات الأخيرة، شهد مسرح التعزية تحولات نوعية، على صعيد مقاربته وما يقدمه من مخرجات فكرية وجمالية، ليكون مثالاً للأجيال الجديدة، وايضا لأنه يتعاطى مع قضايا المجتمع بشكل عام، والجميع اليوم يسعى عبر المحاور الفكرية والمهرجانات المسرحية وايضا بوساطة ما يقدم من تشابيه، لأن تكون ذكرى عاشوراء فرصة لزرع وتكريس مفاهيم تربوية وحياتية وأخلاقية تتوارثها الأجيال في حياتها اليومية. وارى أن ذلك قد يحتاج إلى رؤى جديدة وفكر مغاير، يمكن له أن يؤثر آنيًا، وايضا ضرورة التأكيد على الدراسات المسرحية المعاصرة الي قد تؤسس مفاهيم وقيم جديدة تغير من واقع مسرح التعزية، فضلاً عن التأكيد على نظريات الأداء، التي تظهر عنصر الدهشة لدى المتلقي، وايضا تعطي روحاً جديدة للمسرح. إذ يؤكد "غروتوفسكي" ضرورة تدريب الممثلين وإطلاق خيالهم والاشتغال على تشكيل أجسامهم عبر الحركة، وايضا التمرين على إيقاظ وعي الممثلين وأحاسيسهم لإثارة المتلقي وتحريك مدركاته العقلية والنفسية ليتمكن من قراءة الحدث التاريخي وتأويله حسب متغيرات الزمن المعاصر، واستحداث الرؤى التقنية الحديثة، بعيداً عن الأيدولوجيات التي تعارض ثقافة التلقي التي هي عنصراً مهماً من عناصر بناء العرض المسرحي. وبالتالي يمكن الاستعانة بأفكار ورؤى إخراجية لتشكيل وتركيب الصور التي تنتج مسرحاً متكاملاً، يشمل مجموعة من الأنظمة الفنية، بعيداً عن كل الصور والرؤى المصطنعة، والتي يمكن لها أن تنتج مسرحاً مجرداً من الأداء الحقيقي وخاليا من السينوغرافيا التي هي أساس العرض المسرحي.
وعليه، يجب التعاطي مع مسرح التعزية كـ "بعد" تاريخي ومعنوي غني بأفعاله ودلالاته الكامنة في طبيعة الفرد والمجتمع بنحو عام، وايضاً بأفعاله التي تربط بمجموع القضايا الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي تلامس الفكر الفلسفي الحديث، الذي يهتم في الاشكاليات الوصفية والموضوعات، التي يتم تشبّهها بالحدث المعلوم عبر الفلسفة الأدائية والجمالية للمسرح، وما تطرحه من مواقف تتعلق بالمتغيرات الحياتية. مسرح التعزية الذي يعرض كل سنة في شهر محرم، يحتاج إلى تقييمات ومناقشات لمعرفة وتأكيد المسميات غير الواضحة لهذا المسرح، وايضا لمعالجة الإشكاليات الملامسة له، وفهم شكل العلاقة ما بين مسرح التعزية اليوم وأجناس الروايات التي تحتاج إلى وعي مغاير، يمكن له من تجسيد هذه الواقعة بشكل منظم بعيداً عن التقليدية والتكرار.