حين تحاصر التفاهة الفن

ثقافة 2023/07/26
...

محمد طهمازي

“ التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها ترافقنا على الدوام ونراها حولنا في كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه؛ في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب. إنه لمن الشجاعة أن يتعرف المرء عليها في ظروف دراماتيكية للغاية وأن يسميها باسمها، لكن لا يكفي التعرف عليها فقط وإنما يتوجّب علينا أن نحبها، أن نعتاد على حبها.  “ ميلان كونديرا بين الإخبار والسخرية واليأس والاستفزاز.
التفاهة مثل الأعشاب التي تنمو بشكل طبيعي لا لتنتج ثماراً يستلذ بها الإنسان ويغذِّي وعيه وذائقته منها بل لينتهي بها المآل إلى أن تأكلها ماعز التاريخ وهنالك أعشاب لا تستسيغ أكلها حتى الماعز. إن هذه الأعشاب موجودة منذ الأزل بشكل عرضي وهي ليست مسؤولة عن وجودها التافه لكن الكارثة فيمن يحتضنها ويرعاها ويقنعها أو يجعلها تظن نفسها أشجاراً مثمرة أو أشجارَ ورد أو حتى ظلاً بل ويمنحها منصب الأشجار الخالدة ويحقنها بمقالات السماد العضوي لتتضخم وتصبح تفاهات عملاقة تحاصر الأشجار المثمرة وتمتص حصتها من الماء والغذاء فتذوي وتموت في كثير من الأحيان أو تشد رحالها وتقصد المهجر لتعيش الغربة حتى نهايتها.
من هم صناع التفاهة؟
في هذا الصدد لا يمكن إلقاء اللوم كله على المجتمع بذوقه الهابط كونه لا يتحمل معظم المسؤولية عن جهله بالفن حيث أن المسؤولية تقع على الدولة ومؤسساتها التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية والأخيرتين يتشارك في انحطاطهما القنوات والصحف ودور النشر التي تملكها الدولة وتلك الخاصة حيث أنها في الغالب الأعم تنهل من ذات النبع الملوث وتكتب فيها ذات الأقلام المتخلفة فنيّاً وثقافيّاً، والجميع يتشاركون في عدم فسح المجال للنخبة الفنية والثقافية لممارسة دورها الفعّال والمحوري.
ماذا تصنع التفاهة حينما تهيمن على الساحة الفنية وتصبح هي وجه وواجهة الفن؟
إن إشاعة ثقافة التفاهة لهي أخطر من تفشي الفساد الإداري الذي لابد أن يأتي يوم وتتم مكافحته ضمن خطّة رصينة. وهي أشد أذى من انتشار المخدرات حيث المخدرات مكلفة ولا تُسْقِط في بئرها المعتم سوى فئات معينة بينما التفاهة مجانية وتنتشر كما ينتشر الغاز السام في الهواء بل إنها تنتقل من شعب لشعب ومن جيل لآخر.
تقدم التفاهة، قبل كل شيء، الفن الرديء والثقافة الزائفة حيث الكاتب من كتابها أو الناقد كما يحلو له تسمية نفسه يكتب عن الفنان الحقيقي مدفوعاً بغريزة السلوك الجمعي ويمطره مديحاً كأنه يذمّه وينفخ في التافهين حتى يصدقوا أنفسهم أنهم فنانون وتتضخم جهالتهم وتنمو عقدهم المرضية وتتفشى وتتكاثر نسخهم بكل طرق التكاثر لتعمل على اغتيال الفن والثقافة الأصيلين وتدمر الوعي الذي هو المصباح الحضاري في نفق الوجود المظلم فتولد كما اليوم مجتمعات عمياء فاقدة للحد الأدنى من الذوق الفني وأجيال تعبر عن كل معاني التفاهة في أبسط أفكارها وسلوكيّاتها وهي تنطلق مُعربدة بكل ثقة الجاهل لا يوقفها سوى الهاوية التي لن تسقط فيها وحدها بل سيكون معها وطن موغل في الصبر وتاريخ موغل في الحضارة.
ما الحل؟
بداية الحلول تكمن في سلب التفاهة منصّاتها ومساحاتها الإعلامية عبر الكف عن حشو الفراغات بالمتطفّلين وملوِّثاتهم ومخلَّفاتهم الثقافية وتثبيت أصحاب الأقلام المثقفة المستنيرة من الذين يكتبون بوعي ومستوى فنيٍّ عالٍ وتخصيص مساحات ثابتة لهم في الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات والقنوات وتشجيعهم برواتب مجزية أو بمكافآت حقيقية وليست صورية، على أضعف الإيمان، لغلق الباب في وجه الأقلام المرتزقة التي تعتمد النفخ والتطبيل.
إن ارتقاء الأمم يبدأ من تقديمها لنماذجها الراقية في الفكر والفنون والعلوم والٱداب على حد سواء وجعلهم واجهة لها وقدوة يقتدى بها ومعيناً يغذي وعي وذائقة أجيالها وقيادات موجهة لها على صروح الحضارة وفي المقابل يبدأ انهيار الأمم من تقديمها للنماذج التافهة المدَّعية الانتهازية والوصولية بعقولها التامة التسطُّح والتصحُّر فينتهي بها الأمر إلى أن تصير مثلها أمماً سطحية متصحّرة وفارغة من أي نتاج ثقافي أو فني أصيل أمم الماعز التي ترعى في أعشاب الحضارة بعدما سقطت من حسابات الأمم الإنسانية وخسرت أشجارها وثمارها.