{الهاجريون} اختلال المنهج وقصور المصادر

منصة 2023/07/27
...

 كامل داود


يحتلّ الاستشراق منظومة واسعة الطيف من الثقافة الغربيَّة، وهو لا يزال رافداً معرفياً مهماً للثقافة العربية، سواء تطابقت طروحاته مع ثوابتها أو اختلفت عنها؛ ولعل مردّ الحالتين يعود إلى اختلاف المدارس الاستشراقية في المنهج وميادين البحث، فقد مرّ الاستشراق ومنذ بدايته الكلاسيكية وظهور مفهومه في القرن الثامن عشر، بمدارس وأجيال من مستشرقين اختلفت اشتغالاتهم ومناهجهم، وبالتالي اختلف ما توصلوا إليه من النتائج، التي ما برحت تلقى الرفض أو القبول في الأوساط الثقافية العربية حتى الوقت الحاضر. 

ولربما تكون المدرسة الأنكلوسكسونية، من بين المدارس الاستشراقية الأخرى، هي الأكثر إثارة للردود والاستغراب، سواء بين المثقفين العرب أو حتى الأجانب على حد سواء، ومن هذه المدرسة انطلق (الاتجاه التنقيحي) في ميدان الدراسات القرآنية والتاريخية، وأمسى رجاله مركزين جهودهم على التاريخ في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) الذي يعرف بتاريخ الإسلام المبكر.

يعود بروز الاتجاه التنقيحي في الاستشراق إلى عام 1977، بصدور كتاب المستشرق الأميركي (جون وانسبرو 1928ــ 2002) "الدراسات القرآنية"، "مصادر ومنهج تفسير النصوص المقدسة" ثم توالى تلامذته بإصدار الكتب والدراسات التي تتناول فترة الإسلام المبكر، ومن تلامذته المستشرقة الأميركية (من أصل دنماركي) باتريشيا كرون (1945م- 2015م) والمؤرخ الأميركي مايكل كوك (1940م) مؤلفا كتاب "الهاجريون" الذي صدر عام 1977 وترجمه إلى العربية الراحل الدكتور نبيل فياض عام 1999، والواقع لم يبين الكتاب ولا المترجم طبيعة الشراكة في التأليف، ولم يحددا سهم كل منهما في الكتاب مثلما عندنا في الكتب مشتركة التأليف، إذ تنسب فصول الكتاب إلى مؤلفيها.

 إنَّ عنوان الكتاب يشير إلى إحدى التسميات التي كانت تطلق على العرب قبل ظهور الإسلام، يورد ذلك الدكتور جواد علي في المفصل (ج 2/ ص112) أنَّ التوراة تحدثت عن اسم شعب سكن في شرقي الأردن وفي شرقي أرض "جلعاد"، عُرف باسم "الهاجريين". وهم من العرب وأنَّ "هاجر" كناية عن أم "إسماعيل" جد القبائل التي تحدثت عنها التوراة. 

 اعتمد المؤلفان المنهج الاركيولوجي المادي كما هو دأب المستشرقين الأنكلوسكسونيين، كانت أدلتهم في الدراسة أثرية، ووثائق عربية ولاتينية وعبرية وآرامية وسريانية وإغريقية، أي الاكتفاء بمجموعة صغيرة من المصادر غير الإسلامية المعاصرة لتلك الحقبة، وقد استبعدوا المصادر التاريخية الإسلامية بدعوى أنها كتبت بعد فترة طويلة من وقوع أحداثها، وأنها تخلو من تماسك الأسس الداخلية التي توجب قبولها، وبالمقابل خلوها من أسس الرفض! 

والمعروف أنَّ ابتعاد ظهور المدونات التاريخية عن فترة أحداثها، يعود إلى تأخر علم التاريخ عند العرب، والذي لم ينضج إلا بعد مخاض ثقافي وتعليمي استمر حتى نهاية القرن الأول الهجري، فقد درج العرب على النظر بإعجاب إلى الراوي الشفاهي، وتفضيل الذين يحفظون عن ظهر قلوبهم، على الذين يقرؤون بصحف مكتوبة، وأظن أنَّ آثار هذا السلوك باقية إلى هذا اليوم، فما زال الإعجاب من حظ المحاضر الشفاهي حتى على المستويات الأكاديمية، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر تخلّف صناعة مواد الكتابة، والتي غالباً ما تكون مصنوعة من مواد لا تصمد كثيراً أمام تأثيرات الزمن، مثل العسب (جريد النخل) وعظام أكتاف الإبل وغيرها من المواد، في بيئة عمادها الترحال والتنقل، فليس غريباً في هكذا حال أن تتأخر المدونات العربية حتى تمصير المدن وانتظام عيش التجمعات السكانية. 

في المقابل، لا أحد من المؤرخين يجزم بأنَّ ما وصلنا من سرديات تاريخية، هو الحقيقة بعينها، بل أنَّ الكثير منهم يرى أنَّ هناك ثغرات وتناقضاً وتعدداً في الروايات لحدث واحد وغيرها من العلل التي تشوب تلك السرديات، وليس هناك حرج في اعتماد المناهج العلمية الحديثة في دراسة التاريخ الإسلامي، أو مقارنتها مع المصادر غير الإسلامية، فقد تشعث بعض النتائج ما في السرديات التاريخية من صدوع، إن كانت على وفق محددات الرصانة العلمية والإقناع، ولربما تقع تلك النتائج في دائرة التيه البحثي، إن كانت متكئة على مصادر مطوقة بالإيديولوجيا والحمولة التاريخية السلبية، وأنَّ مؤلفي كتاب "الهاجريون" اعتمدا هكذا مصادر، لذا فإنَّ كتابهما يفترض ظهور خطوط الإسلام العريضة في القرن الثامن الميلادي (ص 66) وأنَّ أقدم ظهور لمفردة الإسلام والمسلمين كان باللغة السريانية 770م (ماشليمانه)، والقول إنَّ من الصعب التخيل أنَّ مصطلحي إسلام ومسلمين كانا يستخدمان كتسمية للدين ومعتنقيه في زمن الغزوات (ص32).

إنَّ هذا الافتراض يقودنا إلى النظر في طبيعة ردود الأفعال للأمم المغلوبة تجاه غالبيها، وإطلاق التسميات غالباً ما يكون مثقلاً بصبغة ازدرائية ضد الغالبين، فكانت حصة الفاتحين من التسميات كبيرة، منها الهاجريون، السراسنة، التازيان وغيرها، مثلما شاعت بين العرب أسماء للأمم الأخرى، مثل بني الأصفر والقوط والنبط، وهذا أمر شائع في تواريخ الأمم المتجاورة التي مرت بصراعات وحروب.

ويمكن أن يكون قولهما قابلاً للتصديق لو كان استنتاج الكتاب هو أنَّ البلدان التي فتحها المسلمون كانت لا تستعمل مصطلحي الإسلام والمسلمين حتى نهاية القرن الثامن الميلادي، ولا خلل هنا، فالكتاب يتقدم بالقول في مدخله (إنَّ روايتنا للإسلام كدين رواية جديدة جذرياً) فماهي هذه الرواية الجديدة؟.

في تاريخ سيبيوس المعروف بتاريخ هيرقل، وهو مؤرخ أرمني عاش في العقد السادس من القرن السابع، يقول إنَّ اليهود اُخرِجوا من الرها (ضمن حدود تركيا) وذهبوا إلى جزيرة العرب واستعانوا بهم على أنهم أبناء عمومة!.

إنَّ السرديات التاريخية تحدثت عن وجود لليهود في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، وكانت يثرب مركزاً مهماً لهم، وقطنوا اليمن أيضاً، إلا أنَّ المؤلفين ينظران إلى أنَّ الغرض من هذا التواجد هو استمالة للعرب وقيادتهم إلى تحرير الأرض الموعودة في فلسطين، ويرجع سيبيوس فيذكر حدوث نزاع علني بين اليهود والعرب، بشأن ملكية قدس الأقداس، والذي حسم لصالح العرب، وبناء مسجد خاص بهم، ويحدد سيبيوس تصدع العلاقات بينهم بعد موجة الغزوات الأولى. 

وفي المصادر (غير الإسلامية) أنَّ اليهود تعرضوا للاضطهاد على يد الأباطرة الرومان، كان آخرها محاولات الإمبراطور هيرقل في القرن السابع الميلادي لتنصيرهم، بل شمل اضطهاده المسيحيين من غير مذهبه المعروف (الملكاني) فكان النساطرة من ضحاياه، وذلك ما يفسر وقوف النساطرة مع الفاتحين المسلمين والتعاون معهم ضد جيوش الرومان، ووجدوا بهم المخلصين من نير مضطهديهم، وهذا شائع في التواريخ السريانية، أما في التواريخ الرومانية فتسود معارضة الإصرار العام للتقليد النسطوري على إحسان النبي محمد وخلفائه للنساطرة.

ولتعزيز فرضيته يعرض الكتاب بعض الاستشهادات التاريخية بشكل يجانب منهجه الاركيلوجي، مثل ما ذكره عن طريقة مكسيموف المعترف (كهنوتي وكاتب بيزنطي ت662م) إذ يقول إنها (توحي) أنه ربما كان يعرف شخصية الغزو المسيانية والساعية إلى استرداد الأراضي، وأظن أنَّ المناهج العلمية في التحقيق لا تقوم على (أنها توحي)، أو (وهكذا ثمة ما يغري المرء كي يقول إنَّ.....).

من زاوية أخرى، المؤلفان يفسران الهجرة على أنها النفي، وكأن لا فرق بين الهجرة والتهجير، وأنَّ الهجرة الحقيقية، باعتقادهما، هي هجرة الإسماعيليين من الجزيرة إلى الأرض الموعودة، وحينئذ دخل العرب بورطة وأخذوا يبحثون عن تخلص منطقي ص36، فتقهقر الدور الموسوي إلى صالح المسيحي، وهكذا وجد الهاجريون حلولاً لمعظم المشكلات الملحة التي واجهوها بعد الانفصال عن اليهودية) ص44، وفي هذا فإنَّ المؤلفين يغدقان علينا بأجوبة دون طرح الأسئلة التي تبنى عليها إجاباتهما، فكان الأولى أن يكون السؤال عن أصل اليهود ومصادرهم الدينية، لأنَّ الديانات الإبراهيمية ذات أصول مشتركة، سواء بالرؤى المادية أو المثالية.

حرص المؤلفان على تركيز الجهود في دور المسيانية (الخلاصية) في فتح فلسطين، والمسيانية اعتقاد بظهور منقذ أو مخلص، وقد خصص الكاتب العراقي "فالح مهدي" كتاباً عن اعتقاد أمم عدة بظهور مخلّص أو منقذ، ويبدو أنَّ هذا الإحساس بالحاجة إلى منقذ، هو إحساس وحاجة بشرية عامة، تنتاب الأمم والشعوب في الأزمات المصيرية الكبرى، وتستشري في ظروف القهر والإقصاء والاضطهاد، ولم يشذ اليهود عن ذلك، فقد سبب اضطهادهم على أيدي البيزنطيين استحواذ فكرة المسيا (المخلص) على تفكيرهم، يرونه المخلص الأخير، إذ إنَّ المخلص الأول هو النبي موسى، وأنَّ اليهود قد سخّروا العرب لهذه المهمة بإقناعهم بالنسب الإبراهيمي (فحين ترك الهاجريون في مسار المغامرة المسيانية الأصلية، شبه جزيرة العرب، فقد فعلوا ذلك كي يصلوا إلى هدفهم، كي يرسخوا أقدامهم في أرض موعودة، والتي كانت ملكاً لهم، كي يستمتعوا بحق إرثي مؤكد إلهياً) ص71، وقبل ذلك بصفحات يتحدث الكتاب عن أنَّ إحلال الصبغة القومية على النبوة منحها حلاً فاعلاً ص44، وهو ما يتناقض مع التحليل السابق الذي يتجنى على المنهج الاركيولوجي، وتجاهل تأكيده على عوامل بيئية ومناخية أدت إلى جدب مناطق الرعي وانهيار سد مأرب وعلل أخرى تسببت في شح الموارد الطبيعية، والتي دفعت بدورها القبائل إلى الهجرة والانتقال إلى مناطق أقل شحاً، وموضوع الهجرات من الجزيرة العربية إلى التخوم الشمالية، معروف في المصادر غير الإسلامية، وإن كان يحسب على أنه غزوات بدوية، ثم جاء الإسلام ممثلاً حاضنة إيديولوجية مقدسة نظمت هذه الأنساق البدوية بأطر دينية، وحولتها إلى قوة قتالية جبارة أسقطت بعد سنين قليلة، أعظم إمبراطوريتين في ذلك الحين.

يطرح الكتاب فرضية أخرى، هي فرضية الأصل السامري للإسلام، و(السامريون) طائفة من بني إسرائيل تختلف عن اليهود ويعدون توراتهم هي الحقيقة، تقوم هذه الفرضية على أنَّ الإمامة الإسلامية هي نسخة سامرية متأتية من التشابه البنيوي بينهما، والذي دمجت فيه السلطة الدينية والسياسية، وهنا عزل واضح عن اليهودية، لأنَّ اليهودية لا تقر إلا بالملكية الداوودية ص61، ويعزز الكاتبان رأيهما بالقول إنَّ شعار الخوارج (لا حكم إلا لله) هو سامري، وفات المؤلفين أنَّ ركونهما إلى مصدر إسلامي لتاريخ الخوارج، هو خلاف لقولهما بإبعاد تلك المصادر عن دائرة البحث، كذلك إنَّ مطالبة الأمير عمر بن عبد العزيز من البطريرك، أدلة من التوراة الأولى في نقاشه بشأن طبيعة السيد المسيح لا تعني أنَّ أصل الإسلام من السامرية ص43، والعلاقة الهشة بين قبضة التراب التي خلق منها عجل بني إسرائيل، ولقب (علي أبي تراب) ص61 ولا يختلف عن ذلك القول بأنَّ المعرفة عند الشيعة سرانية، مؤهل النسب، هارون في حال السامرية وعلي عند الشيعة، وأنَّ السلالتين الكهنوتيتين للحسن والحسين، جاءتا مقابل اليعازر واثيمار السامريين، وفاتهما أنَّ نضوج الفكر الشيعي واكتمال مبانيه النظرية جاء متأخراً عن فترة الإسلام المبكر بأكثر من قرنين. 

يبرز جهد المؤلفين وثقافتهما العالية في ما أطلقا عليه الأنتيك ص97، اختار المترجم الراحل نبيل فياض مفردة الانتيك للدلالة على العصور التي سبقت العصور الوسطى وإفرازاتها المادية والثقافية، والعصور الوسطى تحدد من القرن الخامس (سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية على يد قبائل الجرمان، حتى سقوط القسطنطينية عام 1453م ويليها عصر النهضة) ويقصد بالانتيك الفترة الكلاسيكية التي تضم الحقبة اليونانية وجزء من تاريخ الرومان، وعرض المؤلفين تنظيراً عالياً ينم عن سعة اطلاع ودقة تحليل للفرشة الثقافية والحضارية التي سبقت ظهور الإسلام، بدءاً من الديانة الزرادشتية وتمكنها من تحديد قوام الأمة الإيرانية، عندما جعلت من أهورا مزدا إله الآريين، مثلما جعل الإسرائيليون يهوه إله إسرائيل، يؤكدان بذلك على دور إله شخصي، أما الحالة اليونانية فهي تقارب البوذية، في تأكيدهما على دور المفاهيم غير الشخصية، وفي مصر أقدمت الكنيسة القبطية على رفض الفكر اليوناني باعتباره وثنياً من الناحية الأخلاقية، تولد حلف مقدس بين الثقافة اليونانية البطريركية والفلاحية المصرية، وهو الذي صنع الكنيسة القبطية، التي تميزت بالبساطة الريفية وليست النخبوية المدنية، عدا الإسكندرية التي ظلت تحمل الإرث اليوناني، فأمست الكنيسة القبطية كنيسة فلاحين والكنيسة النسطورية كنيسة نبلاء، فقد تعاملت (الكنيسة النسطورية) مع الفكر اليوناني على أنه مسيحي جاء قبل أوانه، وكان من نتائج ذلك تمجيد الفلسفة اليونانية عند النساطرة وتصديرها إلى العرب عن طريق السريان، لكنَّ المؤلفين يضيقان ذرعاً في عرض موضوع صراع الهويات وتبلورها، ويبتعدان كثيراً عن الرؤى العلمية التي تفسر نشوء الحضارة الإنسانية كحلقات مترابطة بسلسلة واحدة، ساهمت بسبك معادنها الشعوب الغالبة والمغلوبة على حد سواء، وبهذا يُفسَّر التحول في الثقافات، وفي أحسن قول لهما في ذلك، على أنَّ الأنساق الثقافية الجديدة لبلدان ما بعد الفتوحات، هي اتحاد ثقافة يونانية وحكومة رومانية وديانة يهودية، أما (الحضارة الإسلامية فهي النتاج لغزو بربري لأراض ذات تقاليد ثقافية قديمة جداً) 159. وأنَّ قوة الهاجرية في إعادة تشكيل الانتيك تكمن في توحيدها بين القيم اليهودية والزخم البربري ص257، إنَّ هذه النتائج لا تنهض أمام الدور الحضاري (للهاجريين) الذي لحق فترة الفتوحات ثم صُدّر إلى عالم ما بعد (الانتيك). 

خصص الباحثان حجماً كبيراً من كتابهما لتأصيل التغيرات الثقافية في بلاد الشام، ربما لكون تلك البلاد كانت جزءاً منتجاً للثقافة إبان الإمبراطورية الرومانية، أو لأنَّ هذه البلاد شهدت ولادة الأديان الإبراهيمية الأولى، أو للسببين معاً، ففي فقرة تحمل عنوان (هوجرة الهلال الخصيب) المقصود بذلك تأثير الفتوحات في العراق والشام، وما تلاه من تغيرات سوسيولوجية نتيجة التفاعل الداخلي بين الهاجرية وأقاليم الهلال الخصيب، ويعدانه العملية الأكثر حسماً وتعقيداً في تشكيل الحضارة الجديدة ص175، وعلى حد وصف الكتاب، كان العرب يزودون بالبنى، والسوريون يجبرون ممتنين، على تقديم أحجار البناء، وكانت الحضارة الإسلامية في الهلال الخصيب نتاج تفاعل بين الغزاة والمغزوين، وفي مقارنة ذلك مع بلاد فارس، فإنَّ إيران إمبراطورية ذات هوية منصهرة قديمة وأنها صخرة مفردة، لذا توفرت لها إمكانية عودة الثقافة الإيرانية بلغة الغزاة، شملتها طبيعة ردة فعل المسلمين من غير العرب، والتي أخذت شكل سلسلة يائسة من المحاولات لتحرير الإسلام من غشائه العربي، منها حركة الخوارج نموذجاً، لإزالة القداسة الأثنية العربية، أما السوريون فقد كانوا مخلصين في بناء ركامهم على شكل صرح عربي، ويختلف وضع المسيحيين في العراق فقد اكتنفه الضعف لسببين: البناء الأرستقراطي للكنيسة جعلهم قابلين للغزو، وطبيعتهم الأممية وتقبل الحقائق الأخرى، وخلاصة ذلك أنَّ العرب بنوا حضارة من مواد قديمة جداً، وهي ما تبقى بعد طحن الانتيك عبر الطاحونة (الحاخامية) ما عدا التصوف والفن اللذين نجوا من السحق. فقد وجد الهاجريون عموماً، أنَّ اكتساح حضارة ليس أكثر مشقة مما وجده المغول، أو وفق أنموذج سلمي مثل المسيحيين. 

وبقدر تعلق الأمر بالمقارنة بين النتائج المترتبة على التأثير الحضاري لظهور الديانتين، المسيحية والإسلامية، اللتين تشتركان بكونهما تحويرين للحقيقة اليهودية نفسها، فقد أنعمت على دين الغزاة مفهومية، بينما أحرز عالم الانتيك (الغرب) نسخة ملطفة من اليهودية وذلك في هيئة المسيحية

 ص164.

في ذلك يبتعد المؤلفان كثيراً عن العنصر الزماني للبحث عند تحليلهما للتاريخ الإسلامي، يرجعانه إلى توليفة من الكلاسيكية والبربرية والعبرانية، وهي نفس تركيبة التاريخ الأوروبي والتي ظلت في أوروبا متمايزة إلا أنَّ الإسلام رفض الأولى ودمج الاثنتين الباقيتين، أي رفض التعامل مع الفلسفة اليونانية، إنَّ هذا القول قد يصح في البدايات الأولى لنشأة الإسلام، ولكنه يغدو تعسفاً بعد عقود قليلة من ذلك، وبالمنظار نفسه، يريان أوروبا قد امتلكت في حضارتها ثلاثة أصول؛ الإصلاح الديني وعصر النهضة وتبلور القومية، في حين لم يعرض الإسلام سوى السلفية، فكانت حداثة أوروبا التي طوقت العالم مقابل ردة فعل الإسلام التي خلقت الوهابية في جزيرة العرب، وهما هنا يطويان كشحاً عن شواخص النهضة العربية في منتصف القرن الثامن عشر، والدعوات الإصلاحية التي قادها مفكرون كبار، لكنها لم تحقق أهدافها كاملة لأسباب معروفة، لعلَّ من تلك الأسباب الحركة الاستعمارية التي كان بطلها دول (الانتيك الجديد).