حسن الكعبي
حادث إحراق القرآن الكريم من قبل عصابي مختل، جرى تأويلها ضمن المتداول من القراءات الاجتماعية والثقافية على أنها تعبير عن مزاج فردي يطمح إلى الشهرة، اضافة إلى الطمع باللجوء في بلد هو السويد، الذي سن قانونا يدعم حرية الافكار ومن ضمنها فعل الإحراق، وبالتالي فإن الجاني هو من يتحمل المسؤولية كاملة عن هذا الفعل المشين.
على الرغم من أن هذه القراءة تحمل وجها من الصحة، إلا أنها تندرج ضمن القراءات التبسيطية التي تختزل الحادثة وتعومها، هذا إن لم تكن تبررها دون قصد أو وعي، ذلك أن تحميل المسؤولية كاملة لهذا العصابي يسقط مسؤولية منظومة فكرية، تدعم هذه النوعية من الأفعال وتجد لها تبريرات دستورية، تندرج تحت حرية التعبير كشكل من اشكال المغالطة، فحرية التعبير لا يمكن أن تؤدي إلى التحريض على الكراهيات والاساءة، ومن ثم فإن المسؤولية يجب أن تلقى على الانظمة التبريرية، واما الاداة التنفيذية فإنها تتحمل جزءا كبيرا من هذه المسؤولية.
هنالك قراءة أخرى هي الأكثر عمقا انطلقت من فعل الإحراق ذاته على أنه دالة رمزية عن الاعدام والمحو الكامل، واستندت هذه النوعية من القراءات إلى وقائع تاريخية استعادت من خلالها أفعال إحراق الكتب في التاريخ، بوصفها دالة على محاولات إحراق الهوية الجمعية للمجتمعات التي تم استعمارها، فمن خصوصيات المستعمر ايا كان (بربريا أو متمدنا... الخ) العمل على طمس هوية المستعمر وتذويبها ضمن مبانيه الثقافية والايديولوجية، وهوية المستعمَر وخصوصيته التي تشكل صلابته وممانعته للاندماج بالثقافات المستعمرة، تكمن أساسا في هويته الثقافية التي تحفظها النصوص وترسخها داخل المنظومة الاجتماعية، وبذلك يتحول فعل التأصيل إلى مرتكز تشريعي لهذه المجتمعات، التي تضبط ايقاعها وحركيتها على وفق هذه النصوص التشريعية – سيما النصوص المقدسة – من هذه النقطة بالذات ينشأ هوس المستعمر بالإحراق الفعلي، أو الرمزي لهذه المرتكزات المؤسسة للخصوصيات الاجتماعية وللهويات الفرعية الصلبة التي تتعارض مع (براديغمات ) أو نماذج المركزيات الاستعمارية خصوصا المركزية الغربية التي عززت مفهوم الفردانية في منظومتها الثقافية كمفهوم جوهري في انتاج الاغتراب الاجتماعي، وتذويب الملامح الاجتماعية، ففي النظام الغربي لا يوجد تشكل لمجتمعات لها هويتها الفرعية، بل إن هنالك مجتمعا غربيا مندمجا بهوية علمانية، وهو ما تعبر عنه فكرة نهاية التاريخ والايديولوجيات كما في طروحات فوكو ياما.
تظل الهويات الفرعية الصلبة، هي التحدي الاكبر لفكرة نهاية التاريخ ونهاية السرديات الكبرى، ولذلك تصدر نوعية العدائيات المتوثبة للفكر المختلف وللهوية المختلفة في المركزيات الغربية، وهذه القراءات تدعهما مراجعة تاريخ النهضة والتقدم والحداثة، المتضمنة للتمركزات العنصرية في الفكر الغربي، ويؤكد - جالك دريدا – «أن الغرب متمركز عرقيا»، استبصارات دريدا هذه جاءت بعد سجالات طويلة خاضها مع الفكر الميتافيزيقي الغربي وتاريخه، وقد أرجع الأمر لتمركزات أخرى دعمته ومكنت الذات الغربية من الاستقرار عليها، منها التمركز الصوتي والتمركز حول اللوغوس أو العقلانية الغربية في مشاريع الحداثة، بل إن نقد دريدا انطلق من تاريخ الفلسفة منذ افلاطون والى دوركايم وادرجه ضمن التمركزات العرقية..
إن عصر النهضة لم يخل من عصابيات متوثبة في كراهية الاسلام فقد أورد – مازن كم الماز - مترجم مسرحية «التعصب أو حياة محمد» رأيا عن فولتير هذا نصه: «يعلم القرآن الخوف والكراهية واحتقار الآخرين، والقتل كطريقة شرعية أو قانونية، لنشر هذا المبدأ الشيطاني والحفاظ عليه.
إنه يتحدث بالسوء عن النساء ويصنف البشر إلى طبقات ويدعو إلى سفك الدم والمزيد من الدماء.
لقد أثار تاجر الجمال ذلك الاضطراب في قبيلته، لكي يجعل مواطنيه يعتقدون أنه يتكلم إلى الملاك جبرائيل، وأنه قد أخذ إلى الجنة و تلقى هناك جزءا من كتابه غير قابل للهضم، الذي يتحدى فيه المنطق السليم في كل صفحة، ولكي يفرض احترام كتابه ذلك على الجميع، واجه بلاده بالحديد والنار، بحيث أنه خنق الآباء وأخذ منهم بناتهم، وخيّر الجميع بين الموت وبين اعتناق مذهبه: هذا كله بكل تأكيد مما لا يمكن لأي شخص أن يبرره ما لم يأت إلى هذا العالم كتركي، فقط إذا خنقت الخرافة كل نور طبيعي للعقل داخله».
ورغم وجود بعض الآراء التي تؤكد أن «فولتير عاد بعد ذلك بعدما اطلع بشكل أكبر على الإسلام وتأثر بكتاب «سيرة حياة محمد» لمؤلفه هنري دي بولونفيرس، وفيه دفاع عن الرسول الكريم، ورد على المطاعن والانتقاصات التي افتريت عليه، ومن ثم ألف فولتير كتابه «بحث فى العادات» عام 1765 ومدح فيه الإسلام وأشاد بمحمد وبالقرآن، وقال: «إنّ محمداً مع كونفوشيوس وزرادشت أعظم مشرعي العالم».
لكن مع ذلك فإن آراءه تعبر عن ذلك الهوس العرقي الغربي، الذي ينظر إلى الآخر من منطلق الدونية وتصنيفه على أنه بربري ومتوحش، كنظرة متحكمة بنسق التفكير الغربي، حتى أن مفكرا انسانيا كبيرا مثل ماركس لم ينج من التورط بهذه التصورات - كما يذهب إلى ذلك إدوارد سعيد - الذي أكد «أن أفكار ماركس تتماهى وافكار الاستشراق بنظرتها الدونية للشرق، التي أدت إلى صناعة القوة الاستعمارية، انطلاقا من مقولته إنهم عاجزون عن تمثيل انفسهم فليمثلوا».
في هذا السياق فإن حرق القرآن، سواء ما أقدم عليه هذا اللاجئ العصابي، أو ما حدث في الدنمارك، أو ما سعى اليه القس تيري جونز لحرق القرآن، في اطار التأسيس ليوم عالمي لإحراق القرآن في فلوريدا، تزامنا مع الذكرى السنوية لهجمات 11 سبتمبر، وما يشبهها من حوادث اخرى، لا يمكن التعامل معه أو قراءته على أنه تعبيرات عن مزاج فردي متهور، بل يجب قراءته في سياق ربطه مع منظومة التفكير الغربي وتمركزاته العنصرية المحرضة على الكراهيات.