وسام الفرطوسي
في اليوم السابع من المحرّم حوصر سيّد الشهداء ومن معه، وسد عنهم باب الورود، ونفذ ما عندهم من الماء، فعاد كل منهم يعالج لهب الأوام، وبطبع الحال كانوا بين أنة وحنة، وتضور، ونشيج، ومتطلب للماء إلى متحرّ ما يبل غلته، وكل ذلك بعين «أبي علي» والغيارى من آله، والأكارم من صحبه، وما عسى أن يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وبوارق مرهفة، في جمع كثيف يرأسهم عمرو بن الحجاج.
هناك وكَّلَ الحسين عليه السلام لهذه المهمة أخاه العبّاس عليه السلام، فأمره أن يستقي للحرائر والصبية، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين، ثُمّ صاح نافع بأصحابه: إملأوا قربكم، وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين من تحدّثه نفسه بالدنوّ منهم، فرقاً من ذلك البطل المغوار. وقد تكرر ذلك منه عليه السلام يوم العاشر من المحرم حيث كسر الحصار المضروب على نهر العلقمي، واقتحم النهر إلاّ أنّه عليه السلام وفي طريق عودته واجه مقاومة من العدو، وأصيبت القربة وأريق ماؤها.
روى أرباب المقاتل أنَّ عمر بن سعد نهض لحرب الحسين عليه السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحرم ونادى «يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري»، فركب العسكر، وزحف نحو الحسين عليه السلام، فقال العبّاس عليه السلام: «يا أخي، أتاك القوم».
فنهض عليه السلام، وأمر العبّاس عليه السلام بالرّكوب إليهم، وقال: «قل لهم مالكم وما بدا لكم؟».
فأتاهم العبّاس عليه السلام في نحو من عشرين فارساً، فقال لهم: «ما بدا لكم، وما تُريدون؟».
قالوا: «قد جاء أمر الأمير أن نَعْرض عليكم أن تنزلوا على حُكمه أو نناجزكم».
قال: «فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرضَ عليه ما ذَكَرْتُم». فأقبل العبّاس عليه السلام إلى الحسين عليه السلام، فأخبره بما قال القوم، قال: «إرْجِعْ إليهم، فإن استطعتَ أَنْ تؤخّرهم وتدفعهم عنّا هذه العشيّة لعلّنا نُصلّي لربّنا اللّيلة وندعوه ونستغفره» فمضى العبّاس عليه السلام إلى القوم، وسألهم ذلك. فأمر ابن سعد مُناديه فنادى: «قد أجّلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم».
مع أن العباس عليه السلام كان قد أخذ من القوم عهداً بتأجيل المعركة إلى الغد إلاّ أنّه بقي تلك الليلة يحرس الخيام، ويدور في وسطها. وقام زهير بن القين إلى العبّاس عليه السلام فحدّثه بحديث، قال فيه: «إنّ أباك أمير المؤمنين عليه السلام طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وذوو الشجاعة منهم، ليتزوّجها؛ فتلد غلاماً فارساً شجاعاً، ينصر الحسين عليه السلام بطفّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك».
فغضب العبّاس عليه السلام، وقال: «يا زهير، تشجّعني هذا اليوم، فواللّه لأرينّك شيئاً ما رأيته».
لمّا أصبح الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، وفرغ من عبادته عبأ أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر، ودفع اللواء إلى أخيه العباس بن علي عليه السلام، وثبت عليه السلام مع أهل بيته في القلب.
قال الطبري في معرض حديثه عن وقائع يوم عاشوراء: «فأمّا عمرو بن خالد الصيداوي، وجابر بن الحارث السلماني، وسعد مولى عمرو بن خالد، ومجمّع بن عبد اللّه العائذي، فإنّهم قاتلوا في أوّل القتال، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ عليه السلام فاستنقذهم».
روی القندوزي لما اشتدّ العطش قال الإمام الحسين عليه السلام لأخيه العباس عليه السلام: «اجمع أهل بيتك، واحفروا بئراً» ففعلوا ذلك، فوجدوا فيها صخرة، ثم حفروا أخرى، فوجدوها كذلك، ثم قال له: «امض إلى الفرات، وآتينا الماء»، فقال: «سمعاً وطاعة»، فضّم إليه الرجال، فمنعهم جيش عمر بن سعد، فحمل عليهم العباس عليه السلام، فقتل رجالاً من الأعداء حتى كشفهم عن المشرعة، ودفعهم عنها.
استشهد العباس يوم العاشر من المحرم سنة 61 هـ في كربلاء. واختلفت كلمة الباحثين والمؤرخين في كيفية شهادته عليه السلام، فذهب الخوارزمي إلى القول: «فبرز العباس إلى الميدان، فحمل على الأعداء مرتجزاً، وبعد أن قتل وأصاب عدداً منهم سقط شهيداً، فجاءه الحسين عليه السلام، ووقف عليه، وهو يقول: الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي”.