الذات المُسْتَلَبَة.. لعبة الرواية المعاصرة

ثقافة 2023/08/06
...

  غزوان الوردي

الاستلاب القوة القاهرة للذات الموغلة في فاعليتها.. تفقد الإنسان جوهرهُ فهي مؤثر خارجي لا يستطيع الأنا/ الفرد، أو الأنا/ الكل التخلص من سلطته، فهو ليس كالاغتراب الذي يكون شخصياً فردياً ينطلق من معايير نفسيّة سايكولوجيّة تشير إلى الانطواء والانعزال عن المحيط والإحساس بالعدميّة (نفسيَّاً) بينما نجد الاستلاب قوة تمارس ضد مجموعات غير منطوية وواعية من مفكرين وسياسيين يمكنهم وعيهم من الإشارة إلى الاستلاب والتعبير عن رفضه على أقل تقدير.

 ولا شك أن الواقع تحت ضغط الاغتراب يمكن له أن يعود إلى الحاضنة المجتمعيّة؛ بينما المستلب لا يمكن لهُ أن يتخلص من استلابهِ بسهولة فأزمته خارجه عن الذات وتحتاج إلى تضحيات ووقت يستوعب التغيير كالاحتلال مثلاً، وهذا الاستلاب يتحقق في الرواية بوصفها حقلاً إبداعيّاً موضوعه الانسان نفسه، ولما كان الاستلاب أشمل وأعم فقد شغل الوعي الكتابي المعاصر بشكل كبير كمفهوم شمولي تنضوي تحته العديد من المفاهيم كالاغتراب والانسلاب والاستحواذ وغيرها من المفاهيم الدالة على خروج الذات وعجزها عن إدارتها لأمور حياتها.  وتتركز قسوة الاستلاب في استلاب المعرفة التي تمثل «ثمرة التقابل والاتصال بين ذات مدركة وموضوع مدرك وتتميز من باقي معطيات الشعور من حيث أنها تقوم في آن واحد على التقابل والاتحاد الوثيق بين هذين الطرفين»(1)، وتعرّف بأنها «فعل الذات العارفة في إدراك موضوع وتعريفه بحيث لا يبقى فيه أي غموض أو اقتباس»(2)، وتظهر المعرفة ذاتياً أما من خلال الأداة التي تشكل الموضوعات بمساعدتها وأما من خلال وسط يدخل نور العالم إلى الذات متوسطاً من خلاله فإن كلتا الصياغتين تتفقان على أن المعرفة تترسّخ من خلال وسائل معرفية ممكنة ترنسندنتاليا(3). 

ويضع بول ريكور المعرفة كشرط أساسي تشاطره الحرية في الأهمية والقيمة في بنية الإنسان الغربي، فهو يتمتع بوعيه بالحقوق أولاً وبالحرية التي تمثل أساس ثقافته ثانياً؛ إذْ يتمتع بحرية واسعة في التعبير عن هذه الحقوق ومن ثم الدفاع عنها، وهذا ما تفتقر إليه الشخصيّة العربية عموماً، فالعربي تتوزعه التناقضات وانعدام ثبوت المعايير وإن كانت هناك معرفة ووعي بالحقوق لدى البعض فلا وجود لهامش حريّة يمكن من خلاله أن يتحقق أبسطُ هذه الحقوق. 

 وتكمن أهمية الاستلاب المعرفي بوصفه العتبة الأولى لأي استلاب يمكن أن يُخضع الذات، فلا يمكن أن يكون هناك استلاب ديني من دون المرور بمرحلة الاستلاب المعرفي (هشاشة الوعي) ولا يُعقل أن يتحقق الاستلاب الاجتماعي بنوعيه (الجنسي واستلاب الهوية) مثلاً في مجتمعات تعي فيها الذات قيمتها ومكانتها بحيث يمكنها أن تشخّص حالة كل استلاب.

 هناك مقولة مفادها “ان سلطان الانسان الاجتماعي يتركز ويتبلور في المعرفة” (4)، وقد شغل هذا السلطان الانسان وجعله حريصاً على هيمنته على من سواه، واثبات أناه المتسلطة على الآخر والمستلبة له/ لذا نجد في المنجز الروائي روايات تركز على الوعي بالذات وقيمتها بينما هناك روايات اخرى تركز على الوعي بالحقوق والذات المستلبة للحقوق وهاجس النقص (القدري) احياناً كثيرة، ومما لا شك فيه أن «الرواية الجيّدة هي وصف للتجربة الوجوديّة بكل اشكالاتها وألغازها ومأزقها عبر خلق شخوص تحيا حياتها بكليتها بأوجاعها ومسرّاتها بهشاشتها وقوّتها بمصادفاتها وأقدارها..»، لكنّ الروايات الاستلابيّة تحقق قوتها وتميُّزها بفاعليّة النقص لهذه الحياة والعجز الذي يحيلها على حيِّز مقفرٍ تتسلط عليه ديمومة الألم والكبت والحرمان. 

إنَّ الوعي يشترط الاعتراف والسلب في ان واحد؛ بمعنى أنَّ الوعي يتحقق بوجود الآخر سلباً وايجاباً، وهنا تكمن النقطة المفصليَّة التي من خلالها يتم استهداف التاريخ من قبل الآخر؛ إذ تتعرّف الذات على التاريخ والانتماء للتاريخ الفاعل في مواجهة الحياة، إذ الانتماء قضية محوريّة يدعمها الوعي، لأن هذا الآخر يعي أن التاريخ في أبرز صوره ومفاهيمه يعني التقدم في وعي الحرية، فالإنسان لا يتوقف عن التقدم في وعيه لحريته ولوجوده لأنه هو الهدف الأسمى للتاريخ، ولأن التوقف عن التقدم يعني السقوط في عبوديّة جديدة أو السقوط في الانفصال. مما لا شك فيه أن الاستطراد في طرح الأزمة التي تعيشها الذات المقيدة بوعيها الثائر هو بحد ذاته يكشف لنا قلق الشخصيات في موقعها من العالم فهي تنأى بنفسها من ألم معهود إلى ألم مجهول في حيز الاحتمالات المظلمة، فتلجأ الذات أحياناً إلى التفاهة وتشويه متعمد للوعي والذي «يكون ثمنه في أغلب الأحيان هو التدمير الذاتي»، فالاستلاب هنا يتركز في انعدام التحقق المنشود لمتطلبات الحياة، واستهلاك المجتمعات بحجج واهية منها مناهضة الغرب ودعوى الوقوف بوجه التآمر إلى غيرها من الأكاذيب. 

إنَّ الرواية المحترفة هي التي تعمل على اقامة توزان بين داخل الذات وخارجها، منتبهةً الى تراكمات التضاد بين الجماعات البشرية كالتمييز المكاني/ الطبقي بين الشرق والغرب تلعب دورها الفاعل في خلق الصراع الذي يندر أن نجد بين الفئتين من يمارس التعقل والفهم فتحل الحتميّة مكان الوهم واليقين محل الادعاء؛ إذ تصبح المتخيلات والأوهام ثوابت.. هذا بغض النظر عن الرؤية للآخر تجاه العربي؛ إذْ «لا يرغب الغربي أن يرى في العرب سوى أُناس ينبغي عليهم أن يتبعوه ويقتفوا خطاه»، وهذا ما كرّسه مشروعهم الاستشراقي الغربي عبر قرون طويلة. 

الهوامش:

(1) المعجم الفلسفي – مجمع اللغة العربية، ابراهيم مدكور وآخرون، ص186.

(2) المعجم الفلسفي، مراد وهبة، ص606.

(3) المعرفة والمصلحة، يورغن هابرماس، ص17. 

(4) الموسوعة الفلسفية، روزفنتال- ب.ليودين، ،ص482.