ما معايير ديمومة الفنّ؟

ثقافة 2023/08/09
...

 ملاك أشرف

يؤدي الفنّ إلى إعلان أنّهُ جزءٌ لا يتجزّأ من الإنسان، وهو حتمًا جزءٌ من طبيعتهِ المُلتبسة؛ فعندما يكون الإنسان حاضرًا فوقَ الثَّرى يحضر الفنّ ويرتبط بوجوده؛ لأنّ المرء بفطرتهِ وغريزته يحتاج إلى التّعبير عن نفسهِ وما يُخالجها من نزاعاتٍ، هواجس واضطرابات، حيث يتطلّع إلى إيصال صوته وما يُريد بشتّى الطّرائق.
كانَ الفنّ أحد هذهِ الأساليب التي تفرعت إلى الفنون العَمَليَّة بأنواعها المُتباينة والفنون الجَمِيلة بأشكالها المُختلفة..
إذ راحَت طائفةٌ من الفلاسفةِ يقولون: إن الفنّ الحقيقيّ الّذي يستحقُّ أن يُطلقَ عليهِ مُصطلح (الفنّ) هو النّافع المقبول، الّذي يسمو بالطبيعةِ والإنسان ويُعبّر عن الحقائق أو يذهب إلى السّعي والبحث لإثباتها أو إنكارها مع تعليل ذلك، وتفصيل كُلّ ما يتعلق بهِ وإلّا فلا داعي للفنّ! كما تناولت هذهِ الفئة من الفلاسفة والأُدباء موضوعَ الأدب وقرّروا أن النّثر يسرد ويروي ما سبقَ من الأحداث وما سيحدث في الأيّام المقبلة ويحرزُ مضمونًا لاحِبًا عمّا قد حدث وسيحدث.
بينما مضوا إلى أن الشّعر ليسَ سوى وصف ونقل لما يمكن أن يحصلَ ويقع؛ ممّا يُفسّر ما قالهُ الشّاعر نِزار قباني حديثًا عن الشِّعرِ: «بأنّ الذّاكرة هي علّة الشّعر»، يجب على الشّاعر أن يتجردَ من سرد ما مضى ويخترق اللّحظةَ، خالقًا قصيدةً ليست استمرارًا وتكملةً لما انتهى في الغابرِ ولا ابتكارًا لشيءٍ جديدٍ في
المُستقبل.
نستنتجُ أن الفنّ لا بُدَّ أن يكونَ نافعًا، فكُلّ امرِئٍ يحاولُ التصريح عن شيءٍ قابع في الأعماق حتّى لو كانَ يسيرًا وليسَ عميقًا ومُؤثرًا جدًّا، ما يهمّ هو مُخاطبة فكر الآخر وضميره أو مُخاطبة وجدانه بما يمتلكهُ من أدواتٍ وهو ما نسميه
(فنّ).
إذن لا مناصَ من وجود معايير للفنّ من أجلِ أن يكونَ فنًّا حقيقيًّا بَرّاقًا وفَعَّالًا وكي يكونَ توصيلًا للمُرادِ على وجه الدّقةِ والوضوحِ، فيصبح التّنظيمَ، التّرتيب، القدرة، القصد والوعي إلى جانب المُواظبة وتراكم المعرفة من ضمنِ المعايير المُهمّة المطلوبة لا ريب، رُبَّما هذا ما كانَ الفلاسفة يطمحونَ إليهِ سلفًا بغية إنتاج فنّ نقيّ وبهيّ في الوقت نفسه، يصبحُ قادرًا فيما بعد أن يظلَّ أطول فترة زمنيّة مُمكنة.
أمسى الفنُّ شيئًا أكثر إتّساعًا وشموليةً اليوم، نلحظ كيف اكتنفَ المُجتمعات وباتَ تعبيرًا عن مجتمعٍ بأسرهِ ولَمْ يقتصر على الفرد قط، بل نستطيع أن نقولَ إن هذا البلد فنّهُ كذا وتشتهرُ تلكَ المدينة بفنٍّ كذا ومَن ركَنَ إلى الجمود وتجرّد من صفة الفنّ عمومًا فهو كميتٍ لا حياةَ فيه.
الفنّ والإبداع دليل على الوجود الإنساني ونبضه؛ فعدَّ أرقى وسائل التّعبير والبيان على مرِّ العصور، نرى الشّاعر (إيليا أبو ماضي) لجأ إلى الشّعرِ لوصف ما يثيره فضلًا عن وصف وجوده القويّ وعمله التألّيفي الجليل، يُردّدُ عن طريقه الآتي:
وَما كانَ نَظمُ الشِّعرِ دَأبي وَإِنَّما
دَعاني إِلَيهِ الحُبّ وَالحُبُّ ذو أَمرِ
وَلي قَلَمٌ كَالرُمحِ يَهتَزُّ في يَدي
إِلى الخَيرِ يَسعى وَالرِماحُ إِلى الشَرِّ..
لذا فإنَّ الحكم على الأعمال كأن نقول هذا جيّد أو مُبتذل، حسنٌ أو قبيحٌ وإلى آخره.. صارَ حكمًا ونقدًا بدائيًا ساذجًا لا يرتقي إلى مستوى النقد وإن غدا انطباعيًّا لا شكّ؛ ذلك لأنّ كُلّ ما يُنتجهُ الإنسان يعدّ عملًا ما لكن قد يكون هذا العمل هو رديءٌ لا يُناسب رؤية الأنا الأُخْرَى وعليهِ يحكم الفنّ الذوق الفرديّ (الشّخصيّ)، وإذا دققنا في مفهوم الحكم على الأعمال خاصّة والأشياء عامّة، نجدهُ غير سديدٍ، يتطلّبُ شرحًا وافرًا ووقفةً مُتأنيةً إضافة إلى التحليل التفصيليّ الذاكر للأسباب أيضًا؛ ليكشفَ تفاصيل ما تمّ القيام بهِ من ظلمٍ وتهاون في أعمال الأشخاص أو تسليط الأضواء على نتاجاتٍ بشكلٍ زائفٍ ومُخاتلٍ منذُ القدم وإلى الآن.
يبقى الفنّ الحقيقيّ مُلتزمًا بتلكَ المعايير التي هي عرضةٌ للزيادةِ وما عداها هو أدنى وبعبارةٍ أقرب أبْتَر ورُبَّما مُخادع، يقتضي علاجًا ليتبلورَ ويستحقّ لفظة (فنّ) لاحقًا.