عظمة الأوابد التاريخيَّة في تدمر

منصة 2023/08/10
...

  سريعة سليم حديد


 تقع مدينة تدمر إلى الشرق من مدينة حمص، وعلى محور تلاقي طرق تجارية عدة في العالم القديم. وأهمها طريق الحرير الذي امتدَّ من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً، وصارت لها علاقات تجارية واسعة أدت إلى ازدهارها. كما تقع على بعد 215 كم إلى الشمال الشرقي من العاصمة السورية دمشق، وتحدها من الشمال والشمال الغربي سلسلة الجبال التدمريّة، أما من الجنوب والشرق، فتمتدُّ المدينة باتجاه البادية. تمتلك العديد من الينابيع مما أدى إلى تنشيط حركة الزراعة، وانتشار المراعي، كما تقع على طريقها حمامات (أبو رباح) البخاريّة، وتتألف من ثلاثة أروقة محمولة على قناطر اسمها: قناطر (زنوبيا) ملكة تدمر، فقد قيل إنَّ زنوبيا كانت تذهب إليها باستمرار. والحمامات عبارة عن فتحات بركانيّة طبيعيّة تقع في قمة الجبل تنبعث منها أبخرة كبريتيّة، فيدخلها الناس للاستحمام بغية الشفاء من العديد من الأمراض وخاصة الجلديّة وتخفيف الوزن وغير ذلك. 


أصل التسمية

ظهر اسم تدمر في المخطوطات البابليّة القديمة التي وجدت في مملكة ماري شرقي سورية، ويعني الاسم باللغة العموريّة: (بلد المقاومين) وتسمى باللاتينية بالمايرا، واسمها باللغة الآرامية (تدمرتا) أي المعجزة.

أما أهم المعالم الأثرية: المسرح الأثري الكبير، وسوق آجورا، وقوس النصر أو قوس هدريان، ومعبد بعلشين ووادي القبور ومدفن زنوبيا فضلا عن القصور والمعابد والمدافن الملكيّة وقلعة ابن معن والتماثيل، والتترابيل، وغيرها. 


مسرح تدمر 

إنَّ أهم ما يدل على الحضارة التدمريّة الراقية وجود المسرح الكبير، ويعتبر من أجمل المباني الأثرية بطرازه الروماني الذي يحتوي على مقاعد حجريّة كلسيّة منظمة في مدرجات، تفصل بينها ممرات على شكل أشعة الشمس.

يتألف المدرج من ثلاثة عشر صفاً، وهناك فواصل بين الصف والذي يليه بنحو ستين سنتمتراً، وهو مبنيٌّ على شكل نصف دائرة، بحيث تمكن المشاهد من رؤية ما يحدث على المنصّة بأيّ مكان يجلس فيه، والمسرح غير مسقوف، فهو مفتوح للسماء.

بني المسرح في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وقد أعيد بناؤه بعد انهياره عام 273م عندما سيطر الرومان على المدينة. ومن المدهش أنّه كان مدفوناً تحت رمال الصحراء، واكتشف عام 1950 مما أبهر العالم بجماله.  

مدخل المسرح مزيّن بالزخارف والنقوش الجميلة، أما أعمدته الضخمة فتحمل جبهات مثلثيّة الشكل، نقش عليها قرص الشمس. كذلك هناك خمس فتحات لأبواب الدخول مزينة بجبهات مثلثيّة أيضاً، والباب المركزي يفتح نحو الداخل بمحور نصف دائري وفي حائط البوابة ثقوب لتعليق برامج العروض التي كانت تعرض آنذاك، علماً أن البرامج كانت مكتوبة على ألواح طينيّة.

كانت الصفوف السفلى التي تعد أول المقاعد وأفضلها في المسرح مخصصة للطبقات العليا من المجتمع، أما الصفوف التي خلفها، فهي لجلوس العامة من الرجال، أما النساء والأطفال فكانوا يجلسون في مدرجات المسرح العليا.


معبد بل

يقع معبد (بل) شرقي تدمر، وهو إله بابلي، بمثل ربّ الأرباب، مثل جوبيتر الروماني، ويقابله بعل شمين لدى الكنعانيين وحدد الآرامي، وعند الفينيقيين بعل. وقد بُني المعبد على أنقاض معبد آخر مبني بالطين، كما جرت العادة في بناء العديد من المعابد والكنائس. أما الشكل العام للمعبد: فهو مستطيل الشكل طوله 210 أمتار والعرض 205م وارتفاع جدرانه الحجرية نحو 14م. محاط بالعديد من الأعمدة، وتمّ البناء والترميم مرات عدة بسبب الاعتداء والزلازل.

مدخل المعبد عبارة عن بوابة شامخة تواجه جهة الغرب مقابل نبع (إقفا) المقدس ويتألف المعبد من ساحة وهيكل. يتوسطه الحرم، وبجانبه البركة المقدسة المخصصة لاغتسال المصلين قبل الطواف، وكذلك هناك غرفة للطعام. وحرم المعبد محاط من جوانبه الأربعة بأروقة ذات أعمدة محزّزة عليها زخارف من البرونز المذهب، وبداخله يوجد محرابان: المحراب الجنوبي نُحت سقفه من قطعة حجريّة واحدة تتوسطها زهرة اللوتس. أما المحراب الشمالي فسقفه منحوت من قطعة حجريّة واحدة أيضاً، نحت في داخله ست من الآلهة يتوسطها الإله بل.. واستخدم المعبد في القرن السادس الميلادي ككنيسة، والدليل على ذلك الأيقونات والرسومات المسيحيّة، ثمّ تمّ تحويله إلى جامع فيما بعد.وفي مطلع العهد البيزنطي انتشرت المسيحيّة، فصار الهيكل كنيسة، لا تزال آثارها باقية حتى الآن، يقع مدخل الهيكل في الغرب، ويواجه تماماً مدخل المعبد الرئيسي، وذلك ليتمكن الناس من رؤية تمثال بل، عند نقله من الهيكل، لوضعه فوق الجمل من أجل الطواف. وعلى الجدار المقابل للمدخل تبدو آثار قوس المذبح، وعلى الجدار الغربي بقايا فريسكو تمثل الملاكين: جبريل وميكائيل والقديس جورج.

مدخل الهيكل يتألف من أروقة ستة، وما تزال حوله بقايا أنقاض سقطت من الأفاريز التي كانت تحيط به، منها كتلة حجريّة نقش على وجهها الأمامي صور ثلاثة من الآلهة، وهي بل، وإله الشمس يرحبول، ونقش ثالث لإله القمر عجلبول، وهو في لباس رجل محارب، وعلى الوجه الخلفي للكتلة الحجريّة، يوجد نقش لمحاربين بلباس روماني، ونقش لصراع بين الحصان والحية، والإله بل يدوس يقدمه على تنين كبير، وقد برزت بيوض عدة على معظم النقوش وهذا يرمز إلى تجدد الحياة.

وهناك حجر كبيرة أيضاً، نُقش على وجه منه موكب ديني عبارة عن مجموعة من النساء وجمل يحمل تمثال الإله (بل)، وهناك العديد من الحجاج مع أضاحيهم. وعلى الوجه الخلفي للكتلة تتمة الموكب من الحجاج، وهم يحملون البخور. وهذه النقوش تعطي فكرة عن الطقوس التي كان الحجاج يقومون بها في ذلك المعبد. ويدعون يوم الحج باليوم الطيب، وهو يوم تكريس عبادة الإله (بل) إذ يذهب الحجاج إلى المعبد ومعهم أضاحيهم، يدورون بها مع محمل الإله بل الموضوع فوق جمل. ثم يتجهون إلى المذبح ليقدموا الأضاحي، ويقوم الجميع بالطواف الكبير حول المعبد لمرة واحدة فقط، حيث يوضع تمثال (بل) في الهيكل، ولا يدخل إليه إلا الكهنة، وعلى جانبي المحراب درجان يقودان إلى سطح الهيكل، وكان الكهنة يصعدون إلى السطح لعبادة إلهي: الشمس والقمر.

ويعد سوق آغورا الأثري معلماً حضارياً قلَّ مثيله في ذلك الوقت، حيث عاشت مدينة تدمر قمة الازدهار مقارنة بما يحيط بها من مدن لها أهميتها في التاريخ، فقد استطاعت بفضل ملكتها زنبوبيا أن تثبت للعالم قدرة المرأة السورية على بناء الحضارات وإرساء معالم تاريخيّة فريدة من نوعها.

يعدُّ سوق (آغورا) أول منطقة حرة للتجارة العالمية القديمة، ويقع وسط مدينة تدمر الأثرية، ونتيجة تطور تدمر من الناحية الاقتصادية وأهمية موقعها الذي يشكل شبكة مواصلات تجارية مهمة في المنطقة أنشأت سوقاً خاصةً بالتجارة، فقامت ببناء المتاجر، كل متجر يختص بنوع تجارة معينة، حتى أنها أطلقت أسماء على تلك المتاجر منها: متجر العطور والجلود والبخور وما إلى ذلك، وأنشأت آلهة عدة تناسب الأديان المختلفة للتجار الذين يقصدون المدينة، والأجمل من كل ما ذكر أنه عثر على حجر توثق أول علاقة جمركيّة كُتب فيها اسماء التجار ونوع البضاعة وسعرها؛ وكذلك أنشأت محكمة جمركيّة من أجل فضّ الخلافات بين التجار، وأطلقت على المكان اسم «الآغورا» ويعني باللغة التدمرية السوق.


التترابيل

والتترابيل كلمة يونانية تعني: وجود أربعة أبراج على تقاطع الطرق. وتتألف التترابيل من أربع مجموعات كل واحدة مؤلفة من أربعة أعمدة، والعمود عبارة عن قطعة حجرية واحدة من الغرانيت الوردي المجلوب من مصر من مدينة أسوان، وهي مثبتة على مصطبة كبيرة، تتركّز فوق الأعمدة التيجان والأفاريز وأسقف كورنيشية الطراز، وزينت كلها بزخارف جميلة جداً، وداخل كل مجموعة ثبت نصف تمثال حجري. وقد وُضعت المجموعات في وسط ساحة بيضوية، تلتقي فيها الطرق الرئيسية للمدينة، ووظيفتها الحد من التشوه البصري في الشوارع المستقيمة، فضلا عن إخفاء الانحراف بين قسمي الشارع الرئيسي، وأخيراً إضفاء مسحة جماليّة للمكان بانتقال مريح للبصر من مشهد إلى آخر.  ــ ختاماً نقول: إنَّ مدينة تدمر تشكل حضارة أقوام تناقلوا إرثها التاريخي العظيم، وأضافوا إليه أعمالاً جليلة كل حسب رؤيته ومعتقداته. المدينة مثلها مثل أي موقع أثري آخر تعرَّضت للمخاطر العديدة، ولكنها ما تزال صامدة ومحافظة على مكانتها التاريخيّة الفريدة من نوعها. ويمكن أن نذكر قول الأديب (محمد حسنين هيكل): «تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع».