اللغة بوصفها تبسيطاً للواقع عند نيتشه

ثقافة 2023/08/12
...

 مؤيد أعاجيبي


تُعَدُّ اللغة واحدةً من المواضيع الأساسية في الفكر الإنساني، حيث تُعَدُّ وسيلة نقلٍ حيويةً تُمكِّنُنا من الاطلاع على أفكار الآخرين والتعرُّف على ما يحيط بالعالم من موجودات. إنَّ اللغة تُفصِحُ عن الأشياء الموجودة وما يحيط بها، وفي هذا السياق، تُعَدُّ فلسفة اللغة مبحثاً مستقلاً ينظر إليّه من الزاوية الفلسفية. فالفلاسفة المتبنِّين لهذا الاتجاه يرون أنَّ المشكلات التي نشأت تعود إلى فشل الإنسان في استيعاب طبيعة اللغة وحقيقتها. لذلك ظهر مصطلح جديد مع كروتشه يُسمّى "فلسفة اللغة"، تغيَّرت معهُ نظرة الفلاسفة تجاه اللغة، وأصبح لهذه الفلسفة دور بارز في تحقيق أهداف البحث الفلسفي.

لعبت فلسفة اللغة دوراً حاسماً في تحقيق الهدف الأساسي لحسم الآراء الفلسفية وبناء منظومة فلسفية جديدة ومتميزة عن المنظومات السابقة. يُعتقد من قِبل فلاسفة اللغة أن المنظومات السابقة كانت سبباً في الأخطاء التي انتشرت في العالم الإنساني. في هذا السياق، يمثل الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900) مثالاً بارزاً، حيث ساهم في تقديم آراء فكرية وفلسفية تهدف إلى التخلص من الأفكار السلبية وفتح طريق جديد يُحافظ على مكانة الفلسفة والفلاسفة بطريقةٍ نقدية، من أجل الإسهام في التخلص من الأخطاء التي ارتكبت في الماضي من قِبل الفلاسفة.

أُولِيتَ للغة أهمية كبيرة ومتزايدة في القرن العشرين من منظور الفلسفة. تُعَدُّ مفاهيمنا وأفكارنا، وإن تعددت واختلفت، تنجز بوساطة العديد من اللغات المتباينة. بل أحياناً يمكن تحقيق هذه المفاهيم دون الحاجة إلى استخدام أي لغة؛ لكنها في جميع الأحوال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللغة. فاللغة تُعَدُّ مخزوناً هائلاً من المفاهيم والأفكار، ومن دونها يصبح التفكير الثري والمعقد أمراً صعباً. تم تجاوز الرؤية السابقة للغة بأنها مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر، وأصبح الأمر مقبولاً في عصرنا. لذا شدّد فلاسفة اللغة المعاصرون على ضرورة توضيح اللغة وبيان معانيها من خلال دراساتهم الفلسفية. كون التطور يعكس أهمية اللغة كأداة تحمل في طياتها تراثاً ثقافياً هائلاً، وتمثل وسيلة أساسية لفهم وتبادل الأفكار والمعرفة في العالم. 

منذ بداية مسيرته، عمل نيتشه على استكشاف أعماق اللغة والعناصر المترابطة بها، وذلك يتضح جلياً في أولى كتاباته مثل: ( الخطابة القديمة، محاسن التاريخ، ميلاد التراجيديا، والفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي). كانت أحد أولوياته التي احتلت اهتمامه هي ما أسماها عيب "الحس التاريخي" أو "خطيئة كافة الفلاسفة الأصليَّة، فنيتشه منح اللغة أهمية كبيرة، إذ يعتبرها أداة تكشف المعنى الحقيقي للأشياء بشكل أكبر مما يمكن للعقل أن يقدمه من معلومات. يؤمن بأن اللغة تلعب دوراً محورياً في التعبير والتواصل، وهي وسيلة لفهم العالم والأشياء بطريقة مختلفة عما يمكن أن يقدمه التفكير النقدي والمنطق. لذا، يرى نيتشه أن الاهتمام باللغة وفهمها بشكل صحيح يساهم في توضيح الحقائق والمعاني الحقيقية للأشياء والظواهر في العالم.

كان يقول "هنالك ازدراء مصطنع لكل الأشياء التي ينظر اليها الناس بأشد ما يمكن من الجدية ازدراء لكل الأشياء اللصيقة بالحياة ويقولون ناكل لنعيش – إنها كذبة لعينة مثل ذلك الذي يتحدث عن الإنجاب كما لو كان الهدف الحقيقي من وراء كل شهوة حسية، على عكس ذلك يكاد التقدير الكبير للأشياء المهمة لا يكون صادقاً ابداً، لقد عودنا القساوسة والميتافيزيقيين على استعمال للغة يتسم بالغلو والنفاق" (انسان مفرط في انسانيته، ص116). فهو يرى هنا أن اللغة تُعَدُّ مجرد تبسيطٍ للواقع، إذ تستمد خاصيتها التفكيرية من الصور الغير منتظمة لأدراك المصير. وبالتالي، كل ما نسميه "حقيقة" في الأخلاق أو المعرفة أو العلم، لا يكون سوى اختزالٍ وتجاوزٍ لطبيعة الأشياء. يُنظر إلى وعينا كلغة مشفَّرة تحمل في طياتها الانفعالات والشغفات، وهي، بدورها، لغة مشفَّرة للوظائف العضوية. ومن وجهة نظر نيتشه، إذا تناولنا منتجات اللغة بمنظور الفنان، والفن بمنظور الحياة، فإنه بإمكاننا التفكير فيها والتعبير عنها بلغتنا، تماماً كما كان يفعل الإغريق قبل سقراط. ويأتي هذا الاهتمام الذي أظهره نيتشه باللغة نتيجة لاهتمامه بفلسفة اللغة وهي التخصص الأصلي الذي ركز عليه.

ففهم نيتشه لفقه اللغة يهدف إلى اكتشاف القوى الفاعلة والتأثيرية فيها. إنه ليس مهتماً بمجرد ما يقال بالكلمات، بل بمن يمتلك سلطة التعبير والقوى التي تتصارع في اللغة. يركز على القوى التي تحكم 

عمليات التفسير ومنح الأشياء معانيها. 

بمعنى أنه يحاول من البداية جعل لغة الفلسفة تعيش وتتجذر في حياة الفيلسوف، واعتبر أن أعلى أنواع الحياة ونقاءها يكمن في امتلاك الحقيقة التي تتضمنها الاعتقادات. يشدد على أن الفيلسوف يجب أن يبني أشكالاً جديدة من الحياة تسمح له بتحقيق القمة وهذا لن يكون ممكنّاً إلا بواسطة التجارب والابتكارات المستمرة، وبذلك يظهر ارتباطه الوثيق بين الفن والفلسفة والحياة. فالنص المكتوب، على سبيل المثال، يصبح أثراً لمغامرات وتجارب شخصية استثنائية.( دولوز، نيتشه والفلسفة، ص364).  يقول نيتشه في كتابه إنسان مفرط في إنسانيته " تكمن أهمية اللغة في تطور الحضارة في كون الإنسان قد وضع فيها، إلى  جانب العالم الآخر، عالماً خاصاً به، مكاناً كان يعتبره متيناً كفاية ليستند إليه كي يغيظ العالم و يسيطر عليه. إن الإنسان باعتقاده، و خلال حقب طويلة في تصورات الأشياء وأسمائها كما في الكثير من الحقائق الخالدة، قد خص نفسه فعلاً بهذا الكبرياء الذي به كان يسمو فوق الحيوان: كان يتخيل أنه باللغة يمتلك معرفة العالم بالفعل"(ص77). 

وفقًا لهذا القول، تتحوّل الحقيقة نفسها إلى خطأ؛ لأن أساسها يعتمد على الوهم والخطأ من وجهة نظر نيتشه. يرى أن الخطأ ينشأ نتيجة اعتبار فعالية التسمية (الكلمات) نفسها كفعالية المعرفة، فهو يقول في المصدر نفسه والصفحة " لم يكن فنان الكلمة متواضعاً كفاية كي يؤمن بأن ما يفعله ليس سوى تسمية الأشياء, كان على العكس من ذلك, يتصور أنه بتلك الكلمات يعبر عن المعرفة السامية بالأشياء".

يتميّز هذا الموقف بعدم التركيز على الحقيقة كقيمة ذاتية تمكننا من الحكم على الأشياء. بل يعتبر الحقيقة عرضاً حيوياً يعكس نمط الحياة. نيتشه لا يُكرِس اهتمامه لادعاءات الفيلسوف النظري بتجاوز الحقيقة البرغماتية، بل ينظر إليها كغريزة مغالطة وخداع تعكس أصولاً إرتكاسي في الإنسان. هكذا يحاصر التأويل الفيلسوف ذاته، فإن كان الفيلسوف يريد الحقيقة فإن نيتشه يتساءل (ماذا يريد هذا الذي يريد الحقيقة؟) فيعبر عن طريق تحليله لشخصية سقراط في كتابه (أفول الأصنام) فما يرفضه في نموذج الفيلسوف النظري الذي يعبر عنه سقراط هو استهجانه للحياة لقد قال سقراط حين احتضاره " أن نحيا هو أن نكون دوماً مرضى.

إذاً، الفيلسوف الممجد للحقيقة هو الذي يعوض ضعفه الجسدي بقوة زائفة وهي قوة خطابه. يظهر هنا مشكل لغة الميتافيزيقا حسب نيتشه، وهي ما به تصبح ضرباً من المغالطة، في أنها عوض أن توظف الفكرة لصالح الحياة أصبحنا نحكم على الحياة من منطلق الفكرة وبما أنها تنطلق من واقعة تمجيد العقل فإن اللغة بما هي الوجه المجسد له تصبح الوسيلة المثلى لبث هذه المغالطات الميتافيزيقية( نبيهة قادة، الفلسفة والتأويل، ص17)

لقد تجاوز نيتشه فهم اللغة الذي يشترك فيه الجميع، واستكشف بعمق إبداع المتميز وجوهر العالم المتضمن في عناصر اللغة، وخاصة الكلمات والمفاهيم التي نشأت عن طريق الاعتقاد والتخيل وتبسيط الحواس. ولكن هذا التجاوز لا يعني التخلي المطلق عن اللغة، بل يعني تجاوز الفهم الذاتي للغة لدى الآخرين الذي يستند إلى الذات مما ولد أخلاق انحطاط، وخرج بفهم جديد للغة قائم على أساس قلب القيم.