رحلة إلى تخوم الإله بين العلم والدين

منصة 2023/08/13
...

 أوس حسن

في ظل الكوارث والتحديات التي يتعرض لها كوكبنا من تغيرات مناخية، ومن تهديدات لحروب نووية قادمة ومن أمراض قد تفتك بالبشرية؛ إلا أن هناك في الوقت نفسه جانباً مضيئاً للعلم والتقدم الحضاري التكنولوجي، وهذا الجانب المضيء الصامت من تاريخ الأرض هو ما سأسميه أنا شخصياً بحراس الإنسانية، وهؤلاء لا يعملون لتخليد أسمائهم وأمجادهم الشخصية، وإنما يعملون لصالح المجتمع العالمي والكوني مع شبكة من العقول الخفية والمتضافرة بجهودها الجبارة، ليس لحاضرنا الآني أو ما نعيشه اليوم، وإنما ما سيتحقق  بعد 500 عام أو أكثر في مستقبل البشرية.

والعلم في عصرنا الحديث ليس جامداً ولا ميكانيكيا، وإنما العلم الآن يتقاطع مع الروح  والمخيلة، مع الدين والشعر والفلسفة وغيرها من المعارف البشرية الأخرى، لكن هذا التقاطع ليس تقاطعاً وهمياً، وإنما منبثق من واقع العلم ذاته ومن ضروراته ومجاهيله الساحرة، التي ستجعله في موقع الصدارة والاهتمام قبل كل شيء.

مقياس كارداشيف
في عام 1964  كان عالم الفلك الروسي نيقولاي كارداشيف منهمكاً في العمل مع فريق فلكي روسي، للتوصل إلى نقاط ملموسة هدفها البحث عن آثار لحضارات ذكية عاقلة خارج كوكب الأرض، وبناء عليه قد تم اكتشاف مقياس لتطور اي حضارة كونية وقد سمي فيما بعد بمقياس كاراداشيف.
إن المعيار الخاص الذي اكتشفه كارداشيف للحضارات المتطورة يعتمد على كمية استخدامها للطاقة والتقدم التكنولوجي، والتي يتناسب فيها حجم الطاقة المستخدمة مع التقدم الحضاري تناسباً طردياً، ومن هذا المنطلق قد صنف الحضارات الكونية المتقدمة وفقا ً لثلاثة أنواع من الطاقة المستهلكة، وهي/ الكوكبية،/ والنجمية،/ والمجرية، وقد تم لاحقاً، إضافةإلى ثلاثة مستويات أخرى، الأول هو المستوى البدائي الصفري الذي يسبق الكوكبي، والثاني والثالث هو الكوني والكوني الموازي، والذي يأتي بعد المستوى الثالث، الذي توقف عنده كارداياشيف.
المستوى صفر البدائي من الحضارة: وهذا المستوى يتم استخدام مصادر طاقة محددة من داخل الكوكب نفسه من مواد عضوية خام، كالفحم والخشب والنفط، مع استخدام نسبي لأشعة الشمس، وهذا الاستخدام المحدود للطاقة يتيح للبشر تنقلاً بطيئاً داخل كوكب الأرض أو سفراً محدوداً جدا خارج مجاله. والحضارة التي يعيشها البشر الآن ما زالت تراوح داخل المستوى الصفري، لكن وفقاً لعالم الفيزياء النظرية « ميتشو كاكاو»  إذا استهلك البشر 3% من الطاقة كل عام، فإنهم سيصلون إلى المستوى الأول من الحضارة الكونية، خلال   مدة تتراوح بين 100- 200 عام تقريباً.
المستوى الأول من الحضارة ( المستوى الكوكبي)... وفيه يتم استغلال كل مصادر الطاقة على كوكب الأرض، ويتركز أغلبها على الطاقة الشمسية المتوفرة في الطبيعة، واستغلال كل ضوء يسقط على الكوكب، ووفقاً للأبحاث العلمية فإن مقدار الطاقة الشمسية التي يمكن استغلالها على كوكب الأرض يقدر بـ 100 ألف تيراواط، وهذا يعتبر تقدما ً في الحضارة البشرية الذي سيتيح التنقل النسبي والمحدود خارج مجال الكوكب والتحكم في اغلب الظواهر الطبيعية، التي تحدث كالزلازل والبراكين والفيضانات، ليس التحكم بها فقط بل وإعادة خلقها من جديد بما يتوفر من إمكانات هائلة للطاقة، كما أن مشكلات وعوائق كبرى ستختفي عن كوكب الأرض، كالفقر والأمراض ومشكلات تغيير المناخ والاحتباس الحراري وغيرها من الأمور.
3- المستوى الثاني وهو ما يعرف بالحضارة النجمية وفيه يتم استخدام جميع الطاقة الشمسية وعلى نطاق أوسع، لتخرج من مجال الأرض وتتركز حول النجم نفسه أو المحيط النجمي للشمس، وقد اقترح عالم الفيزياء النظرية  فريمان دايسون فرضية غير ممكنة التحقق عملياً وتحريبياً تسمى بغلاف دايسون تتمثل في بناء مجسم كروي ضخم على هيئة مرايا عاكسة حول الشمس، يتم فيه استغلال كل شعاع حراري وضوئي منبعث من الشمس، إلا أن هذه المرحلة من الحضارة تفوق قدرات البشر الحالية النظرية منها والعملية، وهذا الأمر قد يتطلب آلاف السنوات، ولكن ربما قد تكون هناك حضارات ذكية عاقلة قد سبقت البشر في هذا المستوى الحضاري، إذ قد يتوفر للبشر السفر بسرعة توازي سرعة الضوء والوصول إلى كواكب أخرى خارج المجموعة الشمسية واستعمارها، كما يمكنهم  بناء المحركات والآلات التي تسافر عبر نسيج الزمن  في الثقوب السوداء أو الثقوب الدودية، وهذا ما سيعطي للبشر سيادة كاملة على نظامهم الشمسي وتحصينه من أي ظواهر كونية أو طبيعية قد تؤدي إلى دمار الأرض وانقراض الجنس البشري.
اما المستوى الثالث الذي اقترحه كارداشيف فهو الحد الأخير، الذي ممكن أن تبلغه الحضارة البشرية في ثورتها الكونية واستعمارها للفضاء ويتجسد في استغلال كل طاقة منبعثة من مجرتنا درب التبانة وكل ضوء فيها، بما ذلك الانفجارات النجمية والمستعرات العظيمة والثقوب السوداء، وفي هذا المستوى من الحضارة يكون باستطاعة البشر الانتشار في الفضاء والتنقل بسهولة بين الكواكب في مجرتنا، مثل التنقل الحالي بالسيارات أو طرق المواصلات الأخرى، فسيمكنهم ذلك  من إقامة مستعمرات على الكواكب، مطوعين كل طاقة وكل شعاع ضوئي منبثق من المجرة لصالح تلك السلالة الجديدة من البشر، فبعض العلماء يرجح أن الشكل البايولوجي للبشر سيشوبه تغير كبير من ناحيته المادية من خلال بعض الطفرات الجينية، وبعض الاكتشافات التي سيتيحها التقدم التكنولوجي والهندسة الوراثية، فربما قد تكون البنية الهيكيلية للجسد الإنساني، نصفها آلي ونصفها بشري، إضافة إلى خلق حواس جديدة للبشر أو تعزيز قدرة الحواس والوعي بما يفوق قدرتنا الحالية بأضعاف هائلة ومرعبة. كما أن الظروف والعوامل الكونية الأخرى في المجرة قد تعمل على خلق سلالة جديدة مختلفة جذرياً عن سلالتنا البشرية الحالية، والتي قد تكون مشابهة للقفزة التطورية التي كانت على كوكب الأرض والتي نشأ منها الإنسان العاقل (هومو سابينيس)، فالإنسان الذي كان موطنه الأرض سابقاً سيصبح موطنه المجرة بكاملها بعد التحكم بها وبناء الجيوش والمستعمرات والمدن، وكل ما يتعلق بمقومات الحضارة الكونية الجديدة وظروفها المعيشية على جميع الكواكب.
أما المستوى الرابع والخامس فهو الذي تم إضافته مع المستوى البدائي الصفري من الحضارة إلى تصنفيات كارداشيف، ففي المستوى الرابع والخامس المتقدمين ستصبح المخيلة المجنونة، وكل ما رسمه الشعراء والفنانون من عوالم بديلة واقع معاش، بل سيتعدى الأمر كل حدود العقل والزمان والمكان، ففي المستوى الكوني سيتم تشغيل كامل الطاقة والضوء الموجودين في المجرات، وهذه الحضارة البشرية ستتمكن من التلاعب بنسيج الزمان والمكان، والتنقل بين الابعاد المتاحة داخل كوننا  في لحظات مثلما ينتقل أي إنسان في مختلف الاتجاهات داخل غرفته، كما يمكن لتلك الحضارة التدخل في عشوائية الكون وتحريك النجوم والسفر إلى الأكوان غير المرئية، وهذه القدرات شبيهة بقدرات الآلهة القديمة ومعجزاتها، وإن كان هناك أي بادرة ملموسة لخروج حضارتنا إلى النطاق الكوني، فقد نحتاج على أقل تقدير إلى ملايين ملايين السنوات إن لم نقل مليارات، أما البعد الخامس والأخير فهو مثل البعد الرابع في عمله، لكن تحكمه يتم  في مجالات أوسع بكثير ليشمل العديد من الأكوان المرئية وغير المرئية، فتلك الحضارة هي التي ستتحكم بجميع الطاقات في الأكوان الموازية والمجرات الهائلة العدد، وبهذا تقترب هذه الحضارة من الألوهية، إذ إنها ستكون متحررة من أجسادها الفيزيائية والمادية وستصبح عبارة عن وعي محض وموجات يمكنها التحكم في الزمن والسيطرة عليه سيطرة تامة، فمثلاً يمكن لتلك الكائنات رؤية نشأة الكون والانفجار العظيم في الماضي، وفي اللحظة نفسها رؤية انسحاقه وفنائه، وهذه الرؤية التي ستكون على شكل ومضة سريعة أو لحظة لن تتم على مستوى كوننا فقط، وإنما على جميع الأكوان التي توازيه في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبالتالي يمكن لتلك الحضارة التدخل في الأحداث  الكونية جميعها وبأجزاء صغيرة، بل ومتناهية الصغر من الثانية.

التواصل مع الحضارات الذكية
غالباً ما كان الحدس الإنساني يصيب في كثير من الأمور، التي يمكن التنبؤ بها أو العمل عليها، وقد يتطلب هذا الجهد مئات، بل وآلاف السنوات من الجهد البشري وتحديداً في المجالات العلمية، التي تهتم بالظواهر الطبيعية والكونية، ومن هذا المنطلق ظل هناك هاجس كبير يشغل علماء الكون والفلك، هو البحث عن حيوات عاقلة أخرى خارج كوكب الأرض، وهذه الحيوات قد تكون بدائية متمثلة في العناصر الأولى للحياة كالماء والأوكسجين وبعض أنواع البكتيريا، أو قد تكون على مستوى متطور وكبير جداً متمثلاً في حضارات أخرى سبقتنا في العلم والتكنولوجيا والغزو الفضائي بسنوات ضوئية، لذلك لم يقتنع العلماء بوحدتنا الكونية وبمصيرنا المحتوم على كوكب الأرض، وتحديدا بعد الاكتشافات النظرية المذهلة في ميكانيكيا الكم والنظرية النسبية لأينشتاين وفرضية الأكوان المتوازية، إلا أن مقياس كارداشيف للتطور الحضاري الكوني سيقودنا إلى نفس السلم الذي انتهجه داروين في سلمه التطوري في عمليتي النشوء والارتقاء، فنشوء الحضارة الكونية وتطورها عند كارداشيف مرتبط بالاستهلاك الكامل للطاقة، التي ينتجها الإنسان في محيطه أولاً على كوكب الأرض وصولاً إلى المجرات والأكوان الأخرى، وهذا يشبه تماماً نشوء الحياة العاقلة على كوكب الأرض من الكائن أحادي الخلية إلى الإنسان في عصرنا الحديث.
 يرى بعض المهتمين بالخيال العلمي أن الحضارات الكونية الفائقة القدرة موجودة، لكنها لا تتواصل معنا بأي شكل من الأشكال، لأن طرق التواصل مفقودة، فالأمر يشبه تماماً تواصلنا مع اي حشرة أو دودة في عالمنا محاولين أن نشرح لها نظرية الانفجار العظيم أو نظرية إينشتاين. هل يمكنكم تخيل صعوبة الأمر واستحالته بوجود هذه الفجوة الهائلة بيننا وبين تلك الحضارات العاقلة في الأكوان البعيدة.

الدين الكوني الجديد  
ترى بعض الفرق الباطنية والغنوصية والكثير من تيارات البوذية، أن الإنسان هو روح يقود مركبة مادية في هذا العالم، لذلك فمن الممكن أن يتحرر من جسده الفيزيائي والمادي داخل حياته نفسها من خلال بعض الطقوس الخاصة التي تتيح له إمكانية أن يصبح وعياً محضاً، أو تنفتح له ستائر العوالم الأخرى بقدرات حسية واستثنائية لا يملكها البشر العاديون، ويكون هذا الكشف خلال ومضة سريعة تجسد قوة اللحظة الحاضرة تماما ًمثل اللحظة الكونية، التي تكلمنا عنها في المستوى الخامس لمقياس الحضارة  
إن العقائد السرية والثيوصوفية ترى أن هناك منبعاً واحداً يجمع الأديان جميعها والعلوم والفلسفات على هذه الأرض، كما ترى أن هناك سلماً روحياً أو مستويات عديدة للوعي تستطيع أن ترتقي بالإنسان، وتصل به إلى البعد الخامس، بل ويضيفون بعداً سادساً للحضارة للبشرية الكونية التي لم يتكلم عنها العلم مطلقاً، وهي البعد السادس ثم العقل الكلي المرتبط بالإله المطلق والواحد، والذي يعجز اي دين بشري على هذه الأرض عن وصفه أو تصوره.