قراءة في {سيرة الماء والنار}

ثقافة 2023/08/19
...

 لؤي حمزة عبّاس

يستعيد سلفرمان في كتابه (نصيّات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية) جملة كلود ليفي شتراوس: "يبسط الزمن، بطريقة مفاجئة، برزخه بين الحياة وذاتي"، مؤكداً أن الزمن في السيرة يقع بين الذات والحياة التي ترويها، إذ "يتموقع الزمن، في مكان السرد، وعند تواشج الذات والحياة التي تزعم هذه الذات أنها شيء يخصها، وهذا الزمن هو ما سوف يدعى زمن السيرة الذاتية، بما أنه يبني ويحدد النصية السيرية"(1)، ومن المهم بالنسبة لقارئ سيرة مي مظفر (أنا ورافع الناصري، سيرة الماء والنار) (2) أن يتبين الطبيعة الزمنية التي تستجليها السيرة.
 فالكتابة السيرية تُنجز الحياة بوصفها نصاً، بتعبير (هيو سلفرمان)، والنصية السيرية لسيرة مي، تتحقّق باستعادة تجارب حياة مي منفردةً، وتجاربها المشتركة مع رافع، فتُستحضر السيرة بوصفها تخييلاً ثقافياً يُبنى في إطار مروية وطنية تنتظم فيها نظرة مي لحياتها وحياة أسرتها، ضمن مجال عام ذي مرجعية تاريخية، ولا يتحقق ذلك بغير حضور العلامة الثقافية ومدلولاتها التي أسهمت بتشكيل مي ورافع ذاتين إبداعيتين في مجالين مختلفين، مجال الكتابة ومجال التشكيل.
إن عوامل التربية والنشأة تلعب أدواراً حاسمة في توجيه الموهبة وإعداد الوعي، وهو ما يؤكده بوضوح الفصل الرابع المخصّص لمي، العائلة والنشأة وملامح الوعي الأولى، في حين تتخلّل إشارات نشأة رافع وملامح وعيه المبكّر السيرة بمجملها ولا يُخصص لها فصل بذاته، ولذلك دلالته بلاشك، فليس سوى الذات من تُحسن استعادة تجارب نشأتها والحديث عن السبل الأولى لبلّورة وعيها.
تسرد مي قصة العائلة بدءاً من جدّيّها، جدِّها لأبيها، صاحب العِلم والمكتبة التي داهمها جيش الاحتلال البريطاني وصادرها، وجدِّها لأمِّها محمود بصري، زميل نوري السعيد، الضابط العثماني الذي "التحق برجال الثورة العربية مع تأسيس الدولة العراقية، وتوفي خلال عرض للخيالة تعرّض فيه إلى ضربة بالرأس من الحصان في 1924 ولم يتجاوز عمره الأربعين، وكان قد هرب من الجيش العثماني واصطحب عائلته في رحلة طويلة مليئة بالمخاطر من تركيا إلى العراق، ومن شدّة حماسته للثورة أضاف لنفسه لقب (البصري)"، تروي الخالة قصة الجد في المساءات الصيفية بأسلوبها المشوّق المنسوج من خيوط الحقيقة والخيال، لتكون المؤثر السردي الأول في حياة صاحبة السيرة.
تذكر مي أنها لا تكاد تعرف عن أبيها الشيء الكثير سوى مواقفه الرقيقة الحنون، لكن لن يكون من الصعب على متأمل سيرتها أن يُلاحظ أثر حضور الأب في توجيه ابنته، وهو التوجيه الذي يتجاوز، أحياناً، القصد والمباشرة الى الحضور المحض، إلى جانب بنائها العاطفي، فهو بقدرته اللغوية وبمعرفته التركية والعربية والفرنسية، وقد عُيّن في يفاعته مترجماً في البلاط الملكي، وجّه ابنته، على نحو غير مباشر، نحو وعي اللغة الأجنبية والشغف بتعلّمها، مثلما حملها على التعرّف على فضاء الثقافة العراقية في زمن مبكّر من حياتها، بحكم صداقته المقرّبة من الرسامين والمسرحيين والموسيقيين، فضلاً عن اهتمامه بالسينما وإجادته العزف على آلة القانون وأداء المقام العراقي وله رسوم وتخطيطات بالحبر الأسود، كما كان على صلة شخصية بالشعراء والفنانين والخطاطين، مولعاً بالمسرح وصديقاً شخصياً لحقي الشبلي وعبد القادر الرسام ومحمد صالح وغيرهم.
إن الجانب الأعمق تأثيراً في حياة مي وفي بناء ذائقتها يمثله اهتمام الأب الفني، وولعه بالرسم خاصة، بما يمثله وجود اللوحات الأوربية والعراقية في بيت الأسرة، فضلاً عن تخطيطاته لكنيسة الكرمليين حيث كان الأب أنستاس ماري الكرملي (1866 -  1947) يقيم مجالسه الدورية.
إن حضور تخطيطات الكنيسة وشخصية الكرملي، في حياة الأب وممارساته الثقافية، ومن خلاله في حياة أسرته، يتعدّى الجانب الثقافي المحض إلى طبيعة التعايش العراقي في النصف الأول من القرن العشرين، من الثقافة النصيّة إلى الثقافة بوصفها فعلاً يومياً وممارسة حضارية.
تؤكد مي تأثير ذلك في بناء وعيها ونضج شخصيتها، في مفتتح مبحث بعنوان (علاقتي بالفنون البصرية): "على الرغم من كوني لا أُحسن أداء أيِّ نوع من الفنون البصرية عملياً فإنني شديدة التأثر بما أراه من صور فنية"، وهو ما يبدو جلياً في تدرّج معرفتها التشكيلية من قراءة الكتب الفنية بما فيها من لوحات مستنسخة، إلى الاهتمام باللوحات المعلّقة في المنزل، لفنانين أوربيين وأخرى لفنانين عراقيين، حتى التلقّي المباشر للأعمال التشكيلية مع أول رحلة لها لأوربا وزيارتها المتاحف اللندنية.
لكن أول مدخل ساحر، بالنسبة لها، للتعرّف على الحركة التشكيلية الحديثة في العراق هو معرض الفنان شاكر حسن آل سعيد المعنون (معارج)، الذي أقيم في المتحف الوطني للفن الحديث ببغداد 1969.
تستحضر السيرة سوى شخصية الأب شخصيات عديدة، عراقية وعربية، أسهمت ببلورة وعي صاحبتها ونظّمت منظورها للإبداع، الأدبي والتشكيلي، وهي شخصيات تكشف في مجمل سلوكها المتحضّر وعلاقتها الرفيعة مع المرأة، جانباً مهمّاً من الممارسة المدنية في العراق، مثلما تشير إلى طبيعة الحياة الحافلة بعلاقات التفاهم والرعاية بين المعنيين بالثقافة من مختلف الأجيال.
وأول ما يصادف قاريء السيرة هو (جبرا إبراهيم جبرا) (1920 -  1994)، تستذكر بعده (نجيب المانع) (1926 -  1992)، الأديب والمترجم والمتذوق الموسيقي، وما لعبة من دور فاعل في حياتها وتطوير موهبتها بشخصيته الرفيعة وثقافته الاستثنائية، وقد صادف أنه نُسّب، أواخر الستينيات، للعمل في شركة إعادة التأمين على الحياة حيث كانت تعمل، إن حديثها عنه يكشف شخصية فريدة في ثقافتها وسلوكها ويرسم له صورة قلمية استثنائية، وقد كان "عقلاً جباراً.
أسئلته الوجودية لا قرار لها كعطائه الباذخ. شغفه بالثقافة مخيف بحجمه ومعدٍ بالتماس معه. حين يتحدّث عن قصيدة أو نص نثري بليغ أو قطعة موسيقية يضطرب ويمسح من عينيه الدموع ثم يتمتم مدارياً خجله: آسف.. آسف.. فتشعر بأن هذه القامة الممتلئة المديدة قد تحوّلت إلى ذوب خالص من المشاعر.
قد يكركر ضاحكاً:" الضعف البشري ليس عيباً". أقول له: "بل هو جوهر الإنسانية" يرتاح لردّي ويتمادى في الكشف عن معاناته الشخصية. كان يثور بقسوة على الابتذال وتفشّي القبح في الحياة اليومية ويرى أن تداعي الأمة نتاج انهيار نثرها العربي ثم يجهش بالبكاء"، كيف لشخصية كهذه أن لا تكون موجهةً برهافةٍ ومؤثرةً بعمق فيمن حولها؟ الشخصية الأخرى التي أدّت دوراً تعليمياً فاصلاً في بناء شخصية مي وتطوير معارفها، مع تنامي شعورها بأن ثمة نقصاً في ثقافتها العربية لغةً وفنوناً، هي شخصية الشيخ جلال الحنفي (1914 -  2006) المنفتحة والأريحية، وكان وقتها يُلقي دروساً في التجويد والعروض ونظام الأصوات في معهد الدراسات النغمية، وعلى يده رغبت مي بتلقي علوم العربية بالطريقة التقليدية، وأدّت بتوجيهه أولى تجاربها في تعلّم أوزان الشعر، الشخصية الرابعة هي شخصية زوج الخالة بهاء الدين نوري، السفير والأديب المثقف الموسوعي الذي يتقن سبع لغات شرقية وغربية. كان سفير العراق في الأردن وبعد 14 تموز 1958 اتخذ قراراً بعدم العودة إلى العراق فمُنح الجنسية الأردنية تقديراً لمكانته وخبرته وعلمه، وعُين سفيراً فوق العادة في الخارجية الأردنية. كما أشارت مي للدكتور أحمد مطلوب والدكتور إبراهيم السامرائي، بين معلميها في الدرس الجامعي، لكن الحديث الأهم إلى جانب حديثها عن المانع، هو حديثها عن الشاعر العربي نزار قباني الذي أفردت له مبحثاً خاصاً هو الآخر، وقد التقته في العام 1962، وكانت وقتها تبلغ الثانية والعشرين من العمر، حين كان في زيارة (خاصة وعامة) إلى بغداد، وكان صديقاً مقرّباً من السيدة أديبة خضر إحدى صديقات والدتها، التي طلبت من الشاعر أن يُخصص ساعة من وقته للقاء الكاتبة الشابة والاطلاع على تجاربها الشعرية، ووجدت مي فيه صدق المعلّم ومسؤوليته، وقد وجّه اهتمامها إلى نقاط فاصلة في الكتابة الشعرية، مثل ضرورة احتواء الصورة على مدلول ذهني، وعدم السماح لمشاعر الحزن بالسيطرة على ما نكتب بل استثمار ما يمثله الحزن من شفافية وعمق، ونصحها أخيراً بالإكثار من التجارب الكتابية، والحديث عن نزار لا يكتمل بغير التطرق لزوجته بلقيس الراوي، صديقة صبا مي، وقد عاشت بروحها البغدادية مع الشاعر ذي الروح الدمشقية حياةً وارفةً جمعت أجواؤها الثقافتين. بالمقابل من البناء المتدرّج لصاحبة السيرة، يولد رافع مكتملاً واضح التأثير، إنه بتعبير مي، "مارد صغير شقَّ القمقم وانطلق".

ــــــــــــــــــــــــــ
(1)  ج. هيو سلفرمان، نصيّات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، المركز الثقافي العربي، بيروت 2002: 171
(2) مي مظفّر، أنا ورافع الناصري، سيرة الماء والنار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2021