حينما نكون نحن بؤرة العالم.. أن نتعلّم كيف نعيش

ثقافة 2023/08/23
...

البصرة: صفاء ذياب
(غير نفسك كي تغيّر مجتمعك)
ربّما تكون هذه المقولة هي الأكثر تداولاً في مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات، هادفةً إلى أن تكون أنت مركز التغيير، ومن ثمَّ مع هذا التغيير الخاص، تبدأ المجتمعات بالتغير نحو الأفضل.. إذاً أن تبدأ بنفسك هذا هو الأهم دائماً.
الحياة دائماً
بعد افتراق لشهور قليلة، التقيت بأحد الأصدقاء، لأشاهد تغيّره تماماً، من رجل نحيف جداً، يحتار بالملابس التي يرتديها، إلى جسم متناسق وذي حيوية كبيرة، يمشي وكأنه رياضي متدرب منذ سنوات طويلة، وحينما سألته عن هذا التغيّر قال جملةً بسيطة: لقد قرّرت أن أغير حياتي بذهابي إلى نادٍ رياضي لمدة ساعة واحدة يومياً، وبعد أقل من شهرين لاحظت التغيّر عليَّ بشكلٍ ملحوظ، في طبيعة الأكل، والطاقة، والنشاط الذهني، حتى أنَّني أحسست بأنّني إنسان آخر.
كلام صديقي هذا أعادني لسنوات سابقة حينما كنّا نعيش في أوروبا، ففي النرويج مثلاً، نسبة الشيوخ هي الغالبة سكانياً، لهذا لا يمكن أن تجد من جيرانك إلا شاباً أو شابة، في حين يكون الأغلبية من الشيوخ؛ رجالاً ونساءً.
بتجربةٍ بسيطة، لاحظنا، نحن الذين عشنا في أوروبا لسنوات، أنَّ هناك تغييراً دائماً ما يبدأ بعد سنِ الخمسين، ففي هذه المرحلة يبدأ هؤلاء من هم بهذا العمر بالاشتراك بالنوادي الرياضية، أو ما يعرف بـ(الجم)، لاسيّما وأنَّ هذا الاشتراك سيساعدهم بالسيطرة على الأمراض المزمنة، مثل السكّري وارتفاع ضغط الدم وضعف عضلة القلب، والعديد من أمراض الشيخوخة. فحين كنّا نذهب للجم، نلاحظ أنَّ أكثر من نصف عدد المشاركين من كبار السن، ممّن تجاوز الستين عاماً، يذهبون مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع، وبهذا يتمكّنون من المساهمة في علاج أمراضهم، فضلاً عن الأدوية التي يتناولونها بالتأكيد، التي سيقلّلون كمياتها بعد مدة قصيرة إذا واضبوا على التمرينات الرياضية.
غير أنَّنا، بزيارة واحدة لأي (جم) في العراق، من النادر أن نرى شخصاً تجاوز عمره الأربعين عاماً، فأغلب من يذهبون لهذه الأماكن من المراهقين والشباب، وهدفهم واحد في أغلب الأحيان، وهو بناء عضلات تنتفخ بها أجسامهم، من أجل التباهي بها في مجتمعهم الخاص.
ذهنية الخوف
نعيش حياتنا مع كل لحظة تمرُّ كما أنَّها أخذت ثلمة من أيّامنا التي لا تعود، غير أنَّنا في الوقت نفسه نواجه تنمّراً قاسياً مع كل عام يمرُّ علينا، تنمر من الشباب الذين يصغروننا في العمر، ومن ثمَّ يأتي جيل جديد يتنمّر على الجيل السابق، وهكذا نمضي في حياتنا وكأننا أجيال تنتهي لا تبني أو تضيف شيئاً جديداً للسابق، وتقدّم مفاهيم جديدة للقادم.
يشير الفيلسوف كيفين أهو في كتابه (نبضة إضافية أخرى.. الوجودية وهبة الموت)، إلى أنَّه في العصور السابقة، لم يتم نبذ كبار السن بعدِّهم تجسيداً للمعاناة والمرض والموت. في الواقع، كان يُنظَر إلى التقدّم في السن على أنَّه علامة على النعمة، وكانت الوفيات مرتبطة بشكل أكثر شيوعاً بالشباب، أو الموت في أثناء الولادة، أو الإصابات الناجمة عن المعارك، أو الإعدام، أو بمخاطر مهنيّة مختلفة. كان يُنظَر إلى كبار السن بوصفهم ينابيع الحيوية والحكمة. كانت أصواتهم مهمّة لأنَّها جسّدت فهماً عميقاً للعادات والأساطير والطقوس التي كانت تربط مجتمعاتهم معاً. يساعدنا هذا الإحساس بالاحترام والتبجيل على فهم كلمات الفيلسوف الرواقي سينيكا (4 ق.م- 65م) في سياقها الثقافي المناسب: “دعونا نعتز بالشيخوخة ونحبّها، لأنَّها تكون مليئة بالسرور إذا عرف المرء كيفية استخدامها... إذا كان الله مسروراً بإضافة يوم آخر في حياتنا، فينبغي أن نرحّب به بقلوب سعيدة”. قارن تأمّلات سينيكا مع الآراء اللاإنسانية التي لدينا اليوم، عندما يتمُّ ازدراء كبار السن وإبعادهم وظيفياً عن المجتمع المنتج، ويتمُّ “تخزينهم” في دور رعاية المسنّين ومجتمعات التقاعد. تشير بوفوار إلى هذه الظاهرة على أنَّها ليست أقل من “فشل حضارتنا بأكملها”، لكنَّ الفشل ليس مجرّد نتيجة ثانوية للقوى الاجتماعية التاريخية الفريدة للرأسمالية الحديثة. يفهم الوجودي أنَّ فصل وعزل كبار السن والتمييز البنيوي للتفرقة العمرية ينبعان من شيء أكثر غدراً وبدائية: من خوفنا الجماعي من الموت.
لكنَّ التجربة الغريبة التي مرَّ بها كيفين أهو بعد إصابته بجلطة في القلب أدخلته إلى الطوارئ، غيّرت من تفكيره تماماً، فمع تواصله لأيام طويلة مع كبار السن الذي كانوا يرقدون معه في الطوارئ، قدّم رؤيته الجديدة عن كيفية التعامل مع كبار السن، إذ لم يكن هؤلاء المسنّون يفكّرون في خسائرهم أو الفرص الضائعة، ولم يكونوا قلقين للغاية بشأن اقتراب موتهم. في الواقع، بدا أنَّهم جميعاً يحطّمون الصور النمطية عن كبار السن التي اعتدت عليها. كان هناك على سبيل مثال شخص يُدعى فريد، وهو أمريكي من أصل أفريقي يبلغ من العمر سبعة وثمانين عاماً ومحارب قديم في الحرب العالمية الثانية مصاب بأمراض القلب المنهكة. كان ليلاند مُعجباً به بشكل خاص في سياق بحثه، فقد قَبِل فريد حدوده الجسدية وقُربه من الموت بنوع من السهولة ورباطة الجأش. لقد تقبّل عمره واستمتع بكلِّ لحظة لأنَّها كانت توضّح له أنَّ أيّامه المتبقية معدودة. اندهش ليلاند من الطريقة التي لم ينظر بها فريد إلى الوراء بأسف أو إلى الأمام بترقّب. كان موجوداً في الوقت الحاضر. عندما سأله متى كانت أسعد فترة في حياته، أجاب فريد من دون تردّد: “الآن”!
وهو ما علينا أن نفهمه من كلام أهو، وهو أنَّ علينا أن نعيش اللحظة، ونبدأ مع كل مرحلة من حياتنا بدايةً جديدة، من دون الالتفات للماضي. مؤكّداً أنَّه غالباً ما يكون من الأسهل أن نكون غير أصيلين وأن نعيش في حالة من خداع الذات عندما نكون صغاراً وبصحّة جيدة. إذ نكون ممتلئين بالقوّة والحيوية ونواجه مستقبلاً مفتوحاً على مصراعيه أمام الاحتمالات، ونشعر بالأمان والحصانة، كما لو أنَّ الموت لن يطالنا. ولكن مع تقدّمنا في السن، يصبح من الصعب بشكل متزايد العيش في حالة إنكار. إنَّ واقع زوالنا يضغط علينا كلّ يوم إذ تضعف أجسادنا، ويعيقنا المرض، ويموت الأصدقاء وأفراد الأسرة. بالنسبة لكبار السن، كما تُذكّرنا بوفوار: “لم يعد الموت مصيراً عاماً مجرَّداً: إنَّه حدث شخصي، حدث قريب”. لذا يقترح كيفين أنَّ التقدّم في السن قد يدفعنا في الواقع نحو الأصالة، ومواجهة ضعف وجودنا وقبوله، وبهذه الطريقة يجعل من الممكن التعايش مع إحساس متجدّد بالمغزى.
هل نبدأ دائماً؟
في إحصائيات عدّة، أكدّت أن الاستمرار بالتعليم ليست من أولويات الطالب في أوروبا، يُلزم الطفل والمراهق على الدراسة في المرحلتين الابتدائية والمتوسّطة، غير أنَّ المرحلة الإعدادية غالباً ما تكون ثانوية، فالفتى حين ينتهي من المرحلة المتوسّطة، يختار المدارس المهنيّة ليبدأ بالعمل مبكّراً، وبهذا يتمكّن من الحصول على خدمة تؤّهله للحصول على مرتب جيّد بعد تراكم السنوات. لهذا نرى أن المرحلة الإعدادية والجامعية تأتي بعد سنوات من العمل، حينها يبدأ هذا الفتى أو الشاب بتغيير حياته بعد أن يستقر مادّياً.
وحتّى في مجال العمل، وبسبب النظام المنضبط لسوق العمل في أوروبا، ينتقل العامل من وظيفة لأخرى، وربّما لا يستقر على وظيفة واحدة، لأن سنوات الخدمة تحسب حتى في الانتقال من عمل لآخر ما دام هذا العام يدفع ضريبة للدولة.
غير أنَّ نظام العمل في العراق يختلف كُلّياً عن أية دول أخرى، فالموظف يبقى في مكانه شاء أم أبى، وفي حال تغيير مكان عمله، بفقده أو استقالته أو أي تحوّلات أخرى، حينها يبدأ الموظف بحساب سنوات وظيفته من جديد من دون الحفاظ على سنوات خدمته السابقة.
لهذا يكون التغيير صعباً، إلا على المستوى الخاص، حينما نحاول أن نغيّر يومنا، وصداقاتنا وطريقة عيشنا.
وبحسب الباحثة مروة جميل، فالتغيير له ثمن، إمَّا أن ندفع ثمن التغيير أو ندفع ثمن ثباتنا في زاوية مُغلقة، لا تغيير من غير مرونة كأن نلجأ إلى سياسة إمّا…. وإلَّا. أي إمّا أن نقبل العملية التغييرية وإلَّا فلا تغيير. عوّد نفسك على التغيير، بما أنَّك تستيقظ صباحاً وتبدأ تُحرّك يديك وأرجلك في خطوة للنهوض، فأنت تستطيع أن تُغيّر من نفسك وتنظر للأشياء بنظرة مختلفة عن سابقتها، نظرة فيها عزيمة وإيمان بكل ما سيأتي من جديد.
وتضيف: تخيّل نفسك وأنت تقوم بأشياء لم تعتد عن القيام بها في السابق، كالنهوض باكراً وشرب فنجان قهوة وقراءة كتاب جديد أو مشاهدة الأخبار، أو أن تخرج في نزهة مع الأصدقاء لتخرج من دائرة العزلة التي وضعنها بنفسك، أو القيام بالرياضة وسماع الأغاني.. نحن لا نُغيّر من أنفسنا ونلوم مجتمعاتنا، فكن أنت التغيير الذي تريد رؤيته في كلِّ شيء من حولك. أعظم التحوّلات تأتي من أصغر التغييرات، تغيير بسيط في عاداتك يمكن أن يغيّر عالمك ويعيد تشكيل مستقبلك من جديد.
الجميع يفكّر في تغيير العالم ولكن لا أحد يُفكّر في تغيير نفسه، أوّل خطوة للنجاح هي التغيير. اصنع من نفسك شيئاً تستحق التفاخر به أمام الملأ وحافظ على الشيء الذي غيّر حياتك. تقبّلك للرأي الآخر هو تغيير في حدِّ ذاته، التخلّي عن الأفكار السلبية والتفكير بإيجابية بنظرة كلّها تفاؤل بمستقبل جميل برغم الصعاب الذي تطاردك من الزوايا كلّها، يجب أن تغيّر من نفسك وحياتك وتنسى الماضي كلّه وتبدأ بنفس جديد.
أفكار جديدة
إنَّنا نعيش في عالم متغيّر، ينقلنا كل يوم من حالة إلى أخرى، فالتطور الذي يشهده العالم في مجالات عدّة، ليس أولها اجتماعية وثقافية، وليس آخرها تكنولوجياً وتقنياً، يجعلنا نبحث عن تطوير أفكارنا بعدة اتجاهات.
وترى تيسير الناشف أنَّ إحدى طرق توليد الأفكار الجديدة هي الجمع بين الأفكار القائمة أو تعديلها. ثمّة طريق أخرى وهي أن يركّز الفرد على أن يختار أدوات أو نُهُجاً تساعد على ولوج صعيد مختلف تماماً. تدفع هذه النهج العقلَ إلى صياغة روابط جديدة وإلى التفكير على نحوٍ مختلف وإلى النظر في منظورات جديدة.
ولتحقيق فعّالية هذه النهج يجب دعمها بمعرفة المجال المعنيّ، ويجب أن يكون المرء على استعداد لامتلاك معلومات وافية عن المسألة المعنية. من غير المحتمل أن يتوصّل المرء إلى أفكار عظيمة وبارعة ومفاجئة إن لم يكن على استعداد لامتلاك المعلومات الوافية. هذه النهج أو الطرائق يمكن أن تستعمل أو تطبق من أجل إيقاد شعلة الابتكار في محيط الجماعات واللقاءات التي تحفز على الابتكار والإبداع.
لهذا علينا أن نفترض ونتصدى للافتراضات كلّها، فالافتراض معنى غير متحقق من صحّته. ولكلِّ حالة مجموعة من الافتراضات. التصدي لهذه الافتراضات أو تناولها أو إخضاعها للدراسة يتيح مجموعة جديدة من الإمكانيات أو الاحتمالات الفكرية.
لهذا الحياة دائماً مفتوحة على الاحتمالات كلّها، احتمالات غير محددة، يمكننا الخوض فيها، من أجل البدء دائماً.