الخيمة الأولى للتحديث الإبداعي
محمد جبير
فكّر عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي في تجاوز التصحّر السردي في العشرة الأخيرة من مرحلة السرديات البريطانيَّة “1921- 1958” من خلال إضفاء بصمة حقيقيَّة على تلك النصوص، وإكساب النصّ حياةً جديدةً فاعلة تختلف اختلافًا كلّيًا عن صورة الحياة الواقعيَّة الجامدة، وقف الاثنان على مشارف تلك الصحراء، وتفحّصا المنجز الكتابي والحياتي، ورأيا ما رأيا من تناقضات وضعف في مستوى جماليات النصّ، ورصدا ضعف التقانات السرديَّة التي لا تتعدى في الكثير من الأحيان شكليات الصور القلميَّة عن البؤس الحياتي الذي يعيشه الإنسان المحلّي في الريف أو المدينة.
فقد كانت الإطارات الإيديولوجيَّة للكُتّاب هي التي تخلق نسيجها الدرامي في حوارات متبادلة بين الشخصيات، أو تداعيات ذاتيَّة بين أشخاص يتحرّكون في مخيلة الكاتب، ولا تجد لهم أثرًا في الواقع، حيث كانت تلك الإطارات الإيديولوجيَّة بعيدة أو منفصلة عن الواقع الحياتي، أو أنّها لم تتقرّب منه للتعرف على مشكلاته الحقيقيَّة، أو أنَّ المقاييس الإيديولوجيَّة الوافدة المتبناة لا يمكن زرعها وإنباتها في أرض صحراويَّة لم تفكّر شعوبها في التغيير، أو لم تتوفّر لهم الفرصة المناسبة لذلك، وهو الأمر الذي أكّد الفجوة الفكريَّة والإبداعيَّة بين المنجز الكتابي والواقع الحياتي المعاش، فالمجتمعات أو المكونات أو المجموعات وجدت نفسها في طور التشكّل البدائي بعد خروجها من طور السرديات العثمانيَّة في المرحلة المظلمة، والتي امتدت لقرون في هيمنتها على البيئة الاجتماعيَّة العراقيَّة وأذابتها في المسار الآخر.
كلّ تلك المظاهر المتراكمة من التخلّف المهيمن على الحياة العامة، حفّز وأثار النخب المتعلّمة حديثًا، لا سيّما ممّن ولدوا مع العقد الأول من مرحلة هذه السرديات، أن يفكّروا بجد وصرامة علميَّة على التأسيس أو التمهيد لمشروعهم الحضاري الحداثي الذي يتقاطع مع السرديات العثمانيَّة التي كانت متجذّرة لدى بعض النخب العراقيَّة، وإزاحة السرديات البريطانيَّة المحتلّة للذاكرة الشعبيَّة العراقيَّة، هذه الخطوة الجريئة في المغايرة والاختلاف هي التي شكّلت الخيمة الأولى للتحديث الفكري والإبداعي في العراق، وضمّت بين جنباتها كلّ الشرائح المثقفة التي تطمح للتغيير في الفنون الإبداعيَّة المختلفة، ولم تقتصر على كُتّاب السرد، وإنّما كانت حركة تحديث رياديَّة منظّمة مهّدت لظهور سرديات الاستقلال للفترة من “1958- 2003”.
من منظور التحديث السردي اكتشف نوري والتكرلي هشاشة تلك التجارب السرديَّة، وأنّها تريد أن تثبت وجودها في رمال متحركة لا تكاد تهب الريح حتى تختفي تلك الألواح الهلاميَّة، إذ لم تتمكّن تلك الكتابات من خلق أرضيَّة صلبة تمكّنها من الوقوف بثبات مقابل المتغيرات، إمّا بسبب الطغيان المباشر للإيديولوجيا التي تجعل من النصّ السردي أشبه بالمنشور الحزبي، أو هيمنة تقنيات التصوير الواقعي التي لا تضيف للنصّ السردي خيطًا من جماليَّة الحياة بما يمنحها حريَّة التحليق في الفضاء الإبداعي.
وقفة الكاتبين المبدعين، ورصدهما كثبان الرمال المتحرّكة في صحراء السرد، لم تكن وقفة بطر أو اعتباطيَّة، وإنّما لدراسة الظاهرة وتأشير إخفاقاتها وانفصالها عن الواقع، وانقطاعها عن حركة التطور الإبداعي في العالم، ترشح ذلك جرّاء رصد حركة المنجز للاندثار أو المجهول أو الأرشيف التاريخي للذاكرة النصّيَّة أو صندوق تحفيات المرحلة.
كانت دراسة وفحص وتأمّل منجز ما سبق محفِّزًا أساسيًا لإيجاد تفكير سردي مغاير عمّا كان سائدًا ومسايرًا لما هو سائد في بلدان العالم الحديث، هذه النقلة الجريئة في التفكير وضعت الكُتّاب أمام مسؤوليات كبيرة في كسر الجمود الفكري وخلخلة الوعي الراكد، فقد نقلت هذه الرؤية الجديدة للنصّ الإبداعي على مستوى القصّة أو الرواية أو القصيدة أو اللوحة أو المسرحيَّة والسينما والتلفزيون والأغنية والعادات والسلوكيات الاجتماعيَّة من واقع راكد متخلّف إلى واقع حيوي يسعى إلى رسم حياة جديدة خارج أطر المهيمنات البريطانيَّة والعثمانيَّة.
ففي الجانب السردي انتقلت الرؤية من الانعكاس والتصوير الفوتوغرافي للواقع، إلى النصّ الحياة أو الباثّ للحياة للجماليَّة التي تروم تحريك الواقع السكوني المتخلّف، وتجعل منه أكثر انشغالًا واهتمامًا بمجريات الحياة الجديدة المختلفة عن حياته الآنيَّة عن طريق خلخلة القناعات السائدة في النظرة للواقع وللحياة بشكل عام، وتسهم في تشكيل قناعات جديدة تحفّز على تغيير المنظور للكثير من الموضوعات الاجتماعيَّة بعيدًا عن المحدّدات الإطاريَّة الإيديولوجية، وإنّما متبنية لرؤى جماليَّة تعيد للنصّ السردي وظيفته الأساسيَّة في الحثّ على فعل التغيير، وتعيد رسم البهجة للحياة الجديدة وفق منهج التحديث الحضاري للواقع الاجتماعي.
أنتجت هذه الوقفة الرياديَّة ضمن الخيمة الأولى نصوصًا سرديَّة متميّزة لعدد من كُتّاب القصّة، ما زالت تمتلك حيويتها الإبداعيَّة على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على ظهورها في صفحات الصحف آنذاك، وما زالت أيضًا مرجعيات إبداعيَّة في دراسة التحديث السردي لا يمكن تجاوزها، أو غضّ النظر عنها، فإنَّ مراجعة سريعة لمنجز عبد الملك أو التكرلي أو الدبّاغ أو الصقر أو جيان تكشف لنا عن الجهد الريادي الحقيقي في التمهيد لحداثة النصّ السردي، فقد كانت على سبيل المثال قصّة “ فطومة والرجل الضئيل” لعبد الملك نوري و”المجرى والعيون الخضر” لفؤاد التكرلي، و”تلك الليلة” لغانم الدبّاغ، و”السيف” لنزار عباس.. وقصص أخرى لكُتّاب آخرين، علامات سرديَّة أحدثت تغييرًا في شكل وطريقة الكتابة السرديَّة، وبشّرت بكتابة واقعيَّة جديدة تختلف عن كتابات ما سبق.
هذا الحرث في صحراء السرد أثار فضول كُتّاب شباب آخرين ممّن اطّلعوا على التجارب العالميَّة بلغاتها الأصليَّة، وقام بعضٌ منهم بترجمتها، وأدّت هذه الخطوة إلى التعرّف على التقنيات السرديَّة، وكيفيَّة التفكير والبناء والشكل السردي في القصّة والرواية، وهو ما حدّ من الفجوة الإبداعيَّة الفاصلة بين ما يُكتَب هناك، وما يُكتَب هنا.
كانت هذه الفجوة الإبداعيَّة من الاتّساع من الصعب تصور ردمها، ولا يمكن أن تُردَم بإنجاز فرد أو قلّة قليلة من الشجعان أو فرسان السرد الحديث، إذ لا بدّ لتلك التجارب الإبداعيَّة من خلق بيئة تلقٍّ ملائمة تستوعب الجديد وتدعمه.
هذه المواءمة بين المنجز الإبداعي والبيئة الثقافيَّة ليس من السهل تحقّقها مقابل هيمنة مركزيات لا تؤمن بالتحديث، ولا تزال تعيش على صيحة الشاعر الجاهلي “هل غادر الشعراء”، فالمغادرة والخروج على السائد مجتمعيًا لا يمكن تحققها بالإنتاج السردي وحده، وإنّما بتضافر الجهد الإبداعي في قطاعاته المختلفة، فقد كانت هناك مجاميع من الشباب في مجالات إبداعيَّة عملت، وتعمل على إحداث تغيير ثقافي في بنية المجتمع العراقي، لا سيّما بعد أن نشطت البعثات الدراسيَّة إلى الخارج، واطّلع المبعوثون على المدارس والتجارب الحديثة في الفنّ والإبداع، وعادوا بمشاريع ورؤى وأحلام إبداعيَّة تبعث الحياة في الواقع الساكن.
التقت هذه الكفاءات العائدة، مع كفاءات الداخل، وأسهمت في تشكيل اتجاهات حديثة في الفنّ التشكيلي والشعر والسرد والموسيقى والمسرح والسينما والتصوير والغناء، فقد تمّ كسر هيمنة العمود الشعري بيد الشعراء الروّاد، السياب والملائكة والبياتي والحيدري ومَن تبعهم من أجيال، أمثال رشدي العامل وسعدي يوسف وعبدالرحمن طهمازي وخالد يوسف وسركون بولس ونبيل ياسين وفاضل العزازي وسامي مهدي وحميد سعيد وآخرين، وكذلك ساهم روحي الخماش وسلمان شكر وسالم حسين وحسين قدوري في تغيير الذائقة الموسيقيَّة، ولم تختلف التجمّعات التشكيليَّة عن التجمّعات الإبداعيَّة الأخرى، فما أسّس ومهّد له جواد سليم وفائق حسن طوّر من قِبَل شباب مبدع، واتّبع مدارس حداثيَّة في الفنّ التشكيلي، ليخلق بيئة جديدة تتقبّل كلّ ما هو إبداعي ومتجدّد، فقد اجتمعت كلّ هذه الكيانات الإبداعيَّة بمختلف توجّهاتها إلى خلق مجتمع ثقافي مغاير وقادر على خلق التحديث الإبداعي ورسم آفاق إبداعيَّة جديدة.
هذه الخيمة الإبداعيَّة الأولى التي تشكّلت في مرحلة ضمور السرديات البريطانيَّة، استطاعت أن تزهر ثمراتها في أرض جديدة تمتاز بخصبها الإبداعي، وتلقٍ إيجابي متفاعل من الأجيال اللاحقة، إلّا أنّها في الجانب السردي وجدت معارضة ومقاطعة من كُتّاب السرد في العشريَّة الأولى من سرديات الاستقلال، أو ما أُطلِق عليه بجيل الستينات، فقد ذهب معظم كُتّاب هذه العشريَّة إلى الفلسفات الوجوديَّة والعدميَّة جرّاء خيبات الواقع السياسيَّة التي أدّت إلى خسارات وخيبات انعكست بشكل مباشر في معظم نصوص تلك الفترة الزمنيَّة، والتي تحتاج إلى إعادة فحص ومعاينة دقيقة لتأمّل ذلك المنجز الإبداعي.