لا أحد لأطفال التوحد

ريبورتاج 2023/08/23
...

  بدور العامري

لم تكن تعرف الشابة زينب أن قلة الحركة والتأخر بالكلام مع نوبات الصرع المتكررة هي بداية رحلة المعاناة المستمرة مع مرض ابنتها (لانا) قبل ثماني سنوات، لتكتشف إصابتها بطيف التوحد، وتواجه جميع أنواع الصعوبات، بدءاً من مرحلة التشخيص مروراً بمراحل العلاج والتأهيل شبه المستحيلة نتيجة لغياب الخدمات الصحية والتأهيلية المنتظر تلقيها من الجهات الحكومية، وليس انتهاء بصعوبة دمجها في المجتمع.

نقص خدمات
لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد في العراق، بسبب عدم وجود البيانات وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية على حد سواء، إلا أنه بحسب تقرير طبي نشره موقع (ذي ناشونال) في وقت سابق تحدث فيه مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية الدكتور حسين الكعبي "أن أعداد الأطفال المصابين في تزايد ويتوقع وجود أكثر من 200ألف طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد في البلاد وسط تراجع الخدمات لهذه الفئة من المرضى، إذ يعاني المركز الحكومي الوحيد في بغداد من نقص الملاكات الطبية والمستلزمات الضرورية لتشخيص وتأهيل الأطفال المصابين بطيف التوحد، ما حدا بذوي المرضى إلى التوجه إلى مراكز العلاج  والتأهيل الأهلية، على الرغم من ارتفاع التكاليف المالية مقارنة بالنتائج المتواضعة التي يمكن أن يقدمها عدد قليل من تلك المراكز.

أسباب جينيَّة
المختص بعلاج النطق وطيف التوحد الدكتور احمد الكيلاني يرجع السبب الرئيس للإصابة بمرض التوحد إلى الأسباب الجينية (الوراثية)، إذ يؤدي هذا الخلل الوظيفي إلى اختلاف تشابك الخلايا العصبية في الدماغ وبالتالي رسم خرائط جديدة وطريقة تفكير مختلفة لدى الشخص المصاب بالتوحد عن أقرانه غير المصابين، إذ توصلت بعض الدراسات إلى وجود ما يزيد على 100جين يسبب الإصابة بالتوحد، لكن حتى الآن لا توجد رؤية واضحة عن تلك المسببات نتيجة لكثرتها أولاً واختلاف تأثيرها ثانياً، ويوضح الدكتور أحمد أن هناك دراسات كثيرة ما زالت تبحث في الأسباب الدقيقة لمرض التوحد، علماً أن الأبحاث العلمية في وقت سابق حددت مسببات وعوامل كثيرة تزيد من وتيرة الإصابة باضطراب طيف التوحد، منها الطعام غير الصحي والتعرض للسموم، وكذلك بعض المشكلات المرافقة للحمل، فضلاً عن تأثير العزلة الاجتماعية الموجودة خلال السنوات الأخيرة واللعب وقضاء ساعات طويلة خلف شاشات الأجهزة الالكترونية، فهي من أسهمت بدرجة كبيرة بزيادة ظهور سمات التوحد على الأطفال ممن لديهم استعداد جيني للإصابة بالمرض.

سمات وعلامات
يرى أطباء الأمراض العصبية أنه لا يمكن حصر مرض التوحد بعدد محدد من الأعراض والأسباب، لذلك سمي طيف التوحد نتيجة تداخل الأعراض وتنوعها، إذ يذهب بعض المختصين إلى أن التوحد يصنف على عدد المصابين بسبب اختلاف كل حالة على حدة وظهور عارض معين بشدة دون آخر، وبحسب الدكتور احمد الكيلاني "فإن هناك عدداً من العلامات والسمات التي تظهر في بداية مراحل التوحد والتي من خلالها يمكن تشخيص الإصابة بالمرض، وهي تتمثل بضعف ثلاثة محاور، أولها ضعف التطور في التواصل عند الطفل ابتداء من ضعف التواصل البصري وقدرته في فهم مشاعر الآخرين ورغبته في اللعب معهم، ثم صعوبة في الايماءات وغيرها وصولاً إلى عدم تطور النطق، وتابع الكيلاني بخصوص  المحور الثاني وهو الضعف بالمستقبلات الحسية، حيث إن الدماغ لا يستطيع أن يميز المستقبلات الحسية بصورة معتدلة، وإنما يبالغ في هذه الايعازات أو يقلل، إذ كثيراً ما نلاحظ طفل التوحد ينزعج من صوت معين بطريقة مبالغ بها أو تمسكه بلعبة او لبس معين بصورة مبالغ بها أيضاً، نتيجة للتفاعلات غير الطبيعية في الدماغ التي تنتج عنها سلوكيات غريبة عند الطفل المتوحد ما يؤدي إلى صعوبة تواصله مع الآخرين وبالتالي تعزيز العزلة الاجتماعية لديه، أما الضعف الثالث فهو التحديد والتكرار وهو ناتج عن التأخر في النطق الذي يسبب مشكلات حسية ومن أسباب هذه الحالة ارتفاع كهربائية الدماغ مثل تكرار بعض الحركات او بعض الكلمات او التعلق بطعام معين ورغبته بتكراره بصورة مستمرة.  

مفهوم التوحد
يذكر أن التوحد هو أحد اضطرابات النمو المعقدة التي تصيب الأطفال وتعيق تواصلهم الاجتماعي واللفظي وغير اللفظي، فضلاً عن إعاقة النشاط التخيلي والاجتماعي التبادلي لديهم، إذ يظهر هذا الاضطراب خلال الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل وتكون أعراضه واضحة في عمر الثلاثين شهراً، إذ يبدأ في تطوير سلوكيات شاذة وأنماط متكررة والانطواء على الذات.
وحددت منظمة الأمم المتحدة اليوم الثاني من ابريل/ نيسان من كل عام يوماً للتوعية حول اضطراب طيف التوحد، وبحسب أرقام منظمة الصحة العالمية فإن التوحد يصيب واحداً من بين (100) طفل حول العالم، ويكون الذكور أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض بأربع مرات مقارنة بالإناث، وأن أسباب هذا المرض لا تزال غير معروفة، إذ تشير التقارير إلى وجود عوامل محتملة تجعل الطفل أكثر عرضة للإصابة بالتوحد منها عوامل (بيئية وجينية وراثية).

تشخيص وتكامل
ويشير بعض الأطباء إلى وجود نظرة مجتمعية مختلفة للأمراض النفسية والعصبية، بل يمكن أن نسميه خطأ كبيراً يقع فيه ذوو المريض وبعض المشخصين، عندما يتم إهمال معالجة المرض دوائياً والاقتصار على المعالجة العادية او السلوكية فقط، لذلك يجد المختصون أن عملية التشخيص والتأهيل تتطلب وجود فريق عمل متكامل من أطباء أعصاب ونفسيين وكذلك مختصون في التدريب والتأهيل السلوكي لمرضى التوحد، سرى محمد مدربة التكامل الحسي في أكاديمية كلام للتوحد واضطرابات التعلم، تحدثت عن أهمية البرامج والوسائل العلمية الحديثة في تأهيل أطفال التوحد، باعتبارها تعطي نتائج جيدة خلال فترة زمنية معينة، ومن أمثلة هذه البرامج وجود عدد من الأجهزة والوسائل المساعدة التي تحاكي مخيلة الأطفال وتحفز جميع الحواس عن طريق الصور المضيئة والمجسمات التي تجذب انتباه الطفل بهدف تفعيل حواس البصر والسمع والشم واللمس التي غالباً ما تكون شبه معطلة عند مصابي طيف التوحد، من جانبه دعا التربوي مهدي عبد الصاحب الجهات الحكومية إلى العمل على تدريب وتأهيل الملاكات التربوية في صفوف التربية الخاصة والعاملين في المراكز الحكومية الخاصة برعاية أطفال التوحد، وأهمية مواكبة البرامج والطرق الحديثة في التأهيل، وضرورة التعاون والتنسيق مع المراكز الأهلية العاملة في هذا المجال، بعد الحصول على أفضل أنواع التدريب من المراكز الإقليمية والعالمية المتخصصة في هذا المجال.

توعية
رئيس الجمعية العراقية للتوحد وعضو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان فارس مهدي حسين أشار إلى القصور الكبير في التوعية المجتمعية حول مرض التوحد، إذ يقول "هناك حاجة كبيرة إلى التثقيف والتوعية حول اضطراب طيف التوحد، إذ تشمل عملية التوعية فئات عديدة منها ذوو الطفل المصاب وكذلك رفع مستوى التدريب واكساب الخبرات لمعلمي الصفوف الخاصة في المدارس الابتدائية، فضلاً عن امتداد التوعية والتثقيف للمجتمع بصورة عامة ومعرفة الحد الأدنى من البرامج السلوكية المعرفية الخاصة بطيف التوحد، خاصة إذا علمنا أن مسؤولية التعامل مع هذا المرض ليست مقتصرة على أولياء الأمور فقط، إنما يجب أن تكون هناك مسؤولية مجتمعية إنسانية تجاه هذه الشريحة من الأطفال، وأهمية التخلص من جميع المعتقدات الخاطئة بخصوص المرض ومنها الوصم الاجتماعي وتسمية من يعانون من طيف التوحد (بالمتخلفين عقلياً). وعلى صعيد متصل طالب حسين أن يكون هناك نادٍ اجتماعي خاص بأسر أطفال التوحد، لما له من أهمية في تبادل المعلومات والخبرات، فضلاً عن إيجاد مكان ومتنفس يجمع الأسر والأطفال ممن يعانون من الأعراض والهموم نفسها لغرض التخفيف عن كاهلهم، في ما يخص الضغوط النفسية التي يعانون منها.