الوردي يعيد الزنج إلى الواجهة
عدنان الفضلي
تبقى ثورة الزنج عالقة في الذاكرة الجمعية للمؤرخين والمؤرشفين والباحثين عن حقائق جديدة، تضخّ صيغاً جديدة للتلقي، فقد تناول وتناوب كثير من الباحثين على سرد أحداث غير مذكورة من قبل، تخص هذه الثورة وأبطالها وأحداثها المثيرة. آخر من تناولوا هذه الثورة كان الكاتب والباحث علاء الوردي الذي صدر له مؤخراً كتاب عن دار ومنشورات جلجامش تحت عنوان (الزنج ثورة وقائد) ليقدم لنا قراءة مختلفة لهذه الثورة المثيرة للجدل.
الكتاب جاء بـ (190) صفحة من القطع المتوسط وتضمن ثلاثة فصول بأبواب عدة وتحت عناوين فرعية متعددة التناول والاشتغالات سبقهم تقديم كتبه الناقد والأكاديمي الدكتور سعد التميمي والذي جاء فيه "هذه الانتفاضة كرست معاناة الزنوج والفقراء ودفعهم للثورة ضد السلطة المتجبرة، وعلى الرغم مما أنجزته من مكاسب للثوار في عقد ونصف من الزمن وما حققته من إعجاب، إلا أنها لم تنج من النقد لما رافقتها من أخطاء وانتهاكات، بعد أن رفعوا شعار الحرية والعدل وتحقيق الرفاهية بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك تعددت دوافع الاستجابة لهذه الثورة ما بين سياسية واقتصادية واجتماعية".
مؤلف الكتاب وقبل الولوج في سرد الأحداث والكشف عن بحثه كتب مقدمة ربط فيها بين ثورة الزنج وثورات وانتفاضات أخرى قام بها الفقراء والمضطهدون والإصلاحيون، مستذكراً ثورة كربلاء التي قادها الإمام الحسين (ع) ضد الطغيان والفساد والاضطهاد الذي عاشه المسلمون آنذاك، حيث جاء في المقدمة "لقد ضرب الإمام الحسين (ع) أروع الأمثلة في تلك الثورة العظيمة (كربلاء) ليكشف لنا عن زيف الأقنعة التي كانت تتستر تحتها تلك الوجوه القاسية الظالمة، فكان هو العنوان الكبير للوعي الإنساني، ضد التخلف والجهل، مطالباً بالعدل والمساواة في حكم الرعية وإحقاق الحق، فأصبح خروج الإمام ضد الطاغية المستبد، سنة محكمة وصرخة باقية على مر العصور بوجه الظالمين".
الفصل الأول من الكتاب جاء تحت عنوان (ثورات العبيد في التاريخ القديم والتاريخ الإسلامي) وهو فصل يستقصي فيه المؤلف تاريخ ثورات العبيد في كثير من البلدان منطلقاً من التاريخ القديم حيث ثورة العبيد في صقلية سنة 135 ق . م وثورة سبارتاكوس سنة 73 ق . م .. ويذكر المؤلف كيف قاد العرب ثورة صقلية حيث يسرد حكاية العربي السوري (يونس) الذي قاد تلك الثورة بصحبة زميل له يدعى (كليون) وكيف وقف بوجه ملاك الأراضي مطالباً بالحرية.
يقول المؤلف في هذا الفصل "كان من أهم الأسباب لقيام الثورات في ذلك الوقت، هو التهميش الحاصل لفئات كثيرة من الناس، وخاصة الفقراء، وكانت مطالبهم عبارة عن إصلاحات سياسية واقتصادية، ولهم مطالب اجتماعية قد وجهت للسلطة بصورة خاصة، ومن هذه المطالب العامة وقف تكدس الأموال وفساد أقارب الملوك والخلفاء".
في الباب الثاني من الفصل ذاته يورد المؤلف سيرة قائد ثورة الزنج (علي بن محمد) مؤكداً على أن نسبه غير متفق عليه حيث يقول أن البعض يؤكد على أنه فارسي والآخر يرد نسبه إلى أنه عربي قحّ، ثم هناك من يرجح نسبه للعلويين الزيدية، ومنهم من يرى أنه خارجي من مذهب الشراة، ومنهم من يرجعه إلى القيسية من العرب.
من المعلومات المهمة التي وردت في هذا الكتاب أن علي بن محمد كوّن دولة
مستقلة في جنوب العراق، وعاصمتها (المختارة) وجيشاً قوياً ونظاماً إدارياً وسكّ العملة والنقود.
كما يؤكد المؤلف أن صاحب الزنج أصاب في البحرين نجاحاً مرموقاً إذ نفذ حكمه حتى أن الخراج جبي له، وقاتل مناصروه جنود الدولة، بعد أن أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبيّ.
في الكتاب نحصل على معلومة مهمة تخصّ صاحب الزنج، وهي أنه رفض اِغراءات كبيرة مقابل التخلي عن العبيد وثورتهم، ومن تلك الاغراءات التي يوردها المؤلف "أن (رميسا) وهو قائد عباسي أرسل إلى صاحب الزنج يمنحه الأمان وخمسة دنانير عن كل رأس من العبيد الذين معه، لكنه رفض الطلب بإصرار".
الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان (حقب التاريخ وتفاعلها مع الثورة) وفيه يستعرض المؤلف كثيراً من الثورات التي حدثت في العالم وكان مصدر قوتها هو طلب الحرية ورفض التهميش والمطالب بالعدل والمساواة، ويستذكر الثورة العظمى المسماة (الإسلام) التي كان بطلها الرسول محمد (ص) وثورة زيد بن علي والثورة الفرنسية، كما وفي الفصل ذاته يترافع المؤلف عن ثورة الزنج ويبعد عنها صفة العنصرية حيث يقول "لم تكن ثورة عنصرية بين السود والبيض بدليل أن قيادتها كانت من البيض، وأن جماعات كثيرة من الأعراب ومن الفلاحين غير الزنج قدموا لهذه الثورة مساعدات قيمة من حيث تموين الجيش".
في ذات الفضل نجد معلومة أخرى تقول أن ثورة الزنج انتهت بعد أربع عشرة سنة وأربعة شهور من قيامها في أهوار العراق".
الباب الثاني من الفصل ذاته يورد آراء المؤرخين الكبار في الثورة مثل الطبري الذي كان منحازاً للسلطة على حساب الثورة بحسب المؤلف، والجوزي الذي سار على نهج الطبري في وصف الثورة. كما يورد المؤلف رأياً لأحد الباحثين المعاصرين وهو الدكتور (أحمد علّبي) الذي يرى أن ثورة الزنج كانت هي الممهدة لثورة القرامطة حيث يقول "الثورة المخفقة تنجح في تبيان أخطاء إخفاقها، وتقود إلى ثورة أمضى، وثورة الزنج كانت على الأرجح مهمازاً لثورة القرامطة وغيرها من الثورات التي شملت العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري".
الفصل الثالث من الكتاب جاء بعنوان (علي بن محمد) وهو فصل مخصص للحديث عن شخصية صاحب الزنج من قبل كثير من الباحثين وفيه ترد صفات هي أقرب للفنطازيا أو اللامعقول حيث "يروي المؤرخون أنه كان يزعم لأصحابه بأنه يعرف ما في الغيب، وأن الملائكة كانت تنصره وتشدّ أزره".
ومنهم من يعيب عليه ادعاءه النبوة أو بمقام النبوة، مثل الجوزي الذي اتهمه بأنه انتحل النبوة والرسالة، وأدعى العلم بالغيب، في حين ينفي الطبري صفة النبوة عن صاحب الزنج ويروي أنه قال "لقد عرضت عليّ النبوة فأبيتها لأن لها أعباء لا أطيق حملها".
وفي الفصل ذاته يقف المؤلف أو الباحث عند أسباب فشل الثورة من وجهة نظر المؤرخ فيصل السامر والتي يختصرها بخمس نقاط أبرزها أنها كانت حركة طبقية مجدودة النطاق ولا تنطوي على برنامج شامل وأسس فكرية ثابتة، ولم تستطع أن تجذب الأحرار من أهل البصرة على نطاق واسع.
ويورد الباحث أسماء أهم قادة ثورة الزنج وهم : علي بن أبان .. يحيى بن محمد .. محمد بن سلم .. سليمان بن جامع .. وغلاما يحية بن عبد الرحمن بن خاقان (مشرق ورفيق).
الفصل الرابع والأخير جاء بعنوان (البصرة وتأثير الأحداث فيها) وهو فصل يركز على ما حدث في البصرة أثناء وبعد حدوث ثورة الزنج وكيف تحولت البصرة إلى خراب شامل بسبب كثرة المعارك التي جرت والتي تسببت بتدمير المدينة التي كانت مركزاً اقتصاديا مهماً، ويستذكر الباحث المثل البغدادي الشائع (بعد خراب البصرة جئت لنا بالنصر) ويقصدون أنهم لم يرق لهم انتصار (الموفق) على صاحب الزنج.
وفي الختام يستنتج المؤلف من ثورة الزنج ما نصه "أن تلك الحركة انطلقت من عقد الظلم والشعور بالألم ومن واقع الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة، وكانت بداياتها ناجحة ذات نزعة تحررية تطالب بالحرية والعدالة، وكان هذا من أهم أهدافها".